ضبابية المشهد.. ومشروعية السؤال

لا يوجد سؤال غبي، لكن قد يكون هناك آلاف الإجابات التي لا يقبلها العقل لأنها لا تعي طبيعته ولا تحترمه. صحيح أن للإنسان فطرة وغرائز تدفعه إلى التصرف وتمكنه من الاستجابة للحاجات والتهديدات كما بقية الانواع والكائنات الأخرى، لكنه تفوق على كل المخلوقات بامتلاكه العقل وقدرته على استخدامه في عمليات غاية في الدقة والتعقيد فهو قادر على التذكر والاستيعاب والتحليل والبناء المعرفي والتقييم والنقد.اضافة اعلان
السؤال كان الوسيلة التي ساعدت الإنسان على اكتساب المعرفة وتطويرها، فتغلب على الكثير من التحديات وكيّف سلوكه ليناسب الظروف فحسّن مكانته في الكون. سأل الإنسان عن الظواهر الكونية والعناصر والموجودات والطبيعة والكائنات الأخرى وعن ذاته والخلق وكل شيء، ومن مجموع الإجابات التي تحصلت لديه تشكلت ثقافته وحضارته وخبرته التي استخدمها في تطويع بيئته لتكون في خدمته.
جميع ما نعرفه اليوم كان نتاجا للأسئلة التي طرحها الإنسان عن الأشياء؛ ماهيتها وتركيبها وخصائصها وعلاقاتها.
بعض الأسئلة عادية مباشرة وبعضها الآخر فلسفية عميقة. في كل الأحوال كان الإنسان فضوليا يلاحظ الظواهر ويحاول استيعابها فيشكل الفروض ويخضعها للاختبار ثم يستنتج ما إذا كانت فروضه صحيحة. بدون الأسئلة لا تتولد معرفة ولا ينشط العقل ولا تتطور الحضارة ويصعب أن يتقدم المجتمع.
في المجتمعات التي تفتقر إلى الحرية أو تكون الحرية فيها شكلية مصطنعة تنحسر الأسئلة ويتحجر الخطاب ويسلم الجميع بإجابات مقننة؛ فتصبح الحياة رتيبة يشح فيها التفكير ويغيب العقل وتسود فيها العاطفة والمسايرة والأوهام، فلا أسئلة إلا في دائرة المسموح ولا حوار إلا في باب التأكيد على ماهو ثابت ومعروف.
مشروعية السؤال أهم منحة للعقل، وهي التي ترسم ملامح الفرق بين الإنسان وبين الكائنات الأخرى. ومع ذلك فإن غالبية جوانب حياة مجتمعاتنا تقع في نطاق المسلمات غير القابلة للنقاش تستمد حصانتها من المعتقد والسلطة السياسية والأخلاق والأعراف والقيم، فينخفض سقف الحرية ويتوقف السؤال على أبواب المقدس والممنوع والمحرم.
من المؤسف ان هذه المجتمعات لا تعترف بحق السؤال رغم أنها تطلق مجازا على من تمنحهم السلطة المسؤولين. الأسئلة المسموح بطرحها ينبغي أن تدور في مساحة المشروع والمقبول والمقر، كما على كل من يمنح حق السؤال أن يراعي قدسية الأوضاع القائمة، فلا يخرج عن أطرها وقواعدها ومسلماتها.
التربية تشجع الفرد على أن يكون منضبطا يحترم الكبار ولا يتناول مواضيع السياسة والجنس والدين. واللباقة أن لا تكون مباشرا في السؤال فتثني على المسؤول وجهوده لتنال رضاه وتتجنب غضبه قبل أن تباشر في السؤال، كما يتوقع منك ان تضفي على سؤالك درجة من العمومية والغموض تتيح للمسؤول مساحة كافية للمناورة بحيث يمتلك الحرية في أن يجيب أو لا يجيب أو أن يقول ما يريد حتى لو تجنب موضوع السؤال برمته.
في هذه الأيام لدى الناس الكثير من الأسئلة عن الحاضر والمستقبل وما يحصل في الجوار، وهي أسئلة محددة. وفي معظم بلداننا قوانين تكفل حق الحصول على المعلومة، لكن معظم الإجابات التي يحصل عليها الناس تأميلية وضبابية وعامة ولا تكفي لإقناع السائل بأن الإجابة شافية.
معظم ما يعرفه الناس عن القضايا التي تشغلهم محدود وغامض فلا أحد يعرف بدقة طبيعة التنظيمات التي تشكلت على حدودنا ومن يرعاها ولا معلومات دقيقة عن جهود مكافحتها.
لا يعرف الخريجون من جامعاتنا إن كانوا سيجدون عملا هذا العام أو بعد خمس سنوات ولا يعرف الموظف أو حتى المدير بأنه سيبقى في مكانه العام القادم أو لا.
من الممكن أن تجد إجابات عن بعض الأسئلة التي تطرحها في وسائل الإعلام العالمية أو مراكز الأبحاث الغربية في الوقت الذي تتجاهلها مؤسساتنا، فبالرغم من أن العديد من المؤسسات وجدت لتطرح الأسئلة وتراقب الأداء وتجيب عن أسئلة الجمهور، إلا أنها بقيت منشغلة بمسايرة المسؤولين ومتابعة اهتماماتها ومصالحها.
العديد من وسائل الإعلام لا تتعدى كونها منابر لتوجيه رسائل باتجاه واحد أو تطرح الأسئلة التي تنحسر إجابتها في تلميع صورة المسؤول وتعداد فضائله.
مشروعية السؤال التي جعلتنا نبني مؤسسات للتعليم ونطلق على الملتحقين بها طلابا يبحثون عن  المعرفة من خلال أسئلتهم التي لا تتوقف، أخذت تتضاءل في كل مكان، ولا سبيل للتقدم دون احترام العقل واحترام الحق في طرح الأسئلة مهما كانت إجاباتها محرجة وصعبة.