آخر ما تريده إسرائيل هو الاعتدال

لا بد من العودة لموضوع تجويع الشعب الفلسطيني الذي قررت إسرائيل أنه السلاح الذي ستستخدمه لمعاقبة هذا الشعب لاستعماله حقه في ممارسة الديمقراطية بطريقة لم يرضَ عنها أقوى دعاة تلك الممارسة.

اضافة اعلان

حتى الصحف الإسرائيلية ندّدت بتصريحات مستشار رئيس الوزراء بالوكالة دو? ويزغلاس الذي ردّد ساخراً، وضحك الآخرون، بأنه ينوي إخضاع الشعب الفلسطيني لنظام غذائي Diet يؤدي لنحافتهم من دون موتهم. ووصف جدعون ليفي ذلك في هآرتس (21/2/2006) بأنه دليل انهيار أخلاقي وإنساني لإسرائيل، عندما كتب تحت عنوان "الفلسطينيون يموتون ونحن نضحك؟".

الإعلام المغرض أقنع العالم بأن "حماس" وأتباعها لا يشكلون جزءاً من الشعب الفلسطيني بل هبطوا لفلسطين من كوكب آخر. أما الحقيقة فقد دفنت تحت أكوام من التضليل والكذب والتزوير. (ولا بد من الإشارة هنا أن محاكمة دا?يد إيرفنغ في النمسا والحكم عليه بالسجن لمدّة ثلاث سنوات، لأنه زوّر تاريخ المحرقة تُسجِّل سابقة فريدة من شأنها أن تهدّد كل مزوّر للتاريخ بالمحاسبة القانونية، هذا إذا لم يستمر تطبيق المعايير المزدوجة).

الحقائق المدفونة تقول أن حماس هي منظمة فلسطينية حصلت عل 76 مقعداً في المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب ديمقراطياً بضغط وتشجيع وإصرار أميركي- إسرائيلي على الدمقرطة والإصلاح.

إذا كانت حماس قد حصلت على أغلبية برلمانية تؤهلها لتشكيل حكومة فإن ذلك لا يجعل منها كياناً مستقلاً تماماً عن ما هو قائم حاليّاً. فالحكومة التي ستشكلها بالتحالف مع غيرها، أو من دون ذلك، هي الجهاز التنفيذي للسلطة الفلسطينية القائمة والمعترفة بإسرائيل، والملتزمة بكل الاتفاقات الدولية التي تربطها بإسرائيل أو بما يسمّى بعملية السلام (المندثرة). وهي السلطة التي يتربع على عرشها رئيس مفضل ومحبّب من قبل إسرائيل والولايات المتحدة وبقية أنصار إسرائيل، لدرجة أنهم جميعاً هدّدوا بمواصلة التعاون معه لتطويق حماس مالياً واقتصادياً وبأية وسائل ناجعة أخرى. كما أن المجلس التشريعي الذي حصلت حماس على غالبية مقاعده يتكوّن من عناصر أخرى من ضمنها كتلة كبيرة تمثل فتح، الحزب الحاكم السابق، المفضل لإسرائيل وأعوانها أيضاً. حماس لم تلغِ كل ذلك بل حصلت على حصّة من الحكم بالطرق الديمقراطية المشروعة.

لماذا إذن يُطْلَب من حماس أن تعترف بإسرائيل مجدّداً بينما هي شريكة في جهاز سياسي مكوّن، هو السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو معترف بإسرائيل ورافض للعنف وهو ملتزم بكل الاتفاقات. وهل هنالك أية سابقة في القانون الدولي تفرض على أية حكومة منتخبة أن تؤكد من جديد اعترافها بالدول الأخرى أو التزامها بالمواثيق والتعهدات والاتفاقات التي التزمت بها سابقاتها.

ثمّة تساؤل آخر. حماس ملتزمة بهدنة منذ تولي عباس مقاليد السلطة قبل أكثر من عام، وبعد الفوز أعلنت حماس أنها ستحافظ على هذا الالتزام وتسعى لتحويله لاتفاق غير محدود لنبذ العنف. بالمقابل فإن إسرائيل لم تتوقف عن ممارسة العنف طيلة فترة الهدنة وواصلت ذلك بعد الانتخابات. كما واصلت – فوق أنها دولة محتلة – مصادرة الأراضي وتوسيع الاستعمار الاستيطاني.

لماذا إذن يطلب من الذي لا يمارس العنف أن يتوقف عن ممارسته بينما تطلق يد الاحتلال لممارسة العنف بأبشع وأقسى أشكاله باستمرار. ثم لماذا لا تعتبر مطالبة حماس بالانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 1967 اعترافاً ضمنياً بحق إسرائيل بالوجود ضمن تلك الحدود؟ ولماذا لا يحق لأية حكومة منتخبة أن تراجع أية اتفاقات والتزامات سابقة لتأكيد انسجام تلك الاتفاقات مع المصلحة الوطنية كما صرّح بذلك مسؤولون من حماس.

لماذا لا نتذكّر أن الرئيس بوش قام بهذا الإجراء نفسه عندما انتخب رئيساً. فلقد ألغى معاهدة كيوتو للتغيير المناخي وألغى التزام أميركا بمعاهدة حظر الصواريخ البالستية Anti-Ballistic Missile Treaty، كما أنه سحب توقيع الولايات المتحدة على المعاهدة التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية. كل ذلك فعله الرئيس بوش باسم المصلحة الوطنية. لماذا إذن لا يحق لحماس أن تراجع التزامات فرضت على سلطة هزيلة مهزومة فاسدة أودت بالوطن وحقوقه كما أودت بفرص السلام والأمن للمنطقة بأسرها بما فيها إسرائيل.

إذا ظلت إسرائيل وأتباعها في الولايات المتحدة وأوروبا تطبق المثل القائل "ضع رأسك بين الروس" فذلك دليل مؤسف على عدم الاستفادة من كل تجارب الماضي المؤسفة القاسية.

الذي عرقل السلام عبر السنين لم يكن دور حماس ولا العنف الفلسطيني (أو سمّه الإرهاب ليسعد الآخرون) الذي عرقل السلام هو استمرار إسرائيل في الإعراض عن كل اعتدال فلسطيني حتى تتذرّع بالتطرّف من أجل استمرار تنفيذ المشروع الصهيوني باستعمار الأرض وتهويدها وقطع الطريق على كل إمكانية لقيام دولة فلسطينية كما أعلن دو? ويزغلاس عن ذلك بكل وضوح عند إطلاق مشروع فك الارتباط بغزّة.

لنضع الحقيقة التالية نصب العين: آخر ما تريده إسرائيل بل وتخشاه بقوة هو أن تغيّر حماس مواقفها وتلبي الشروط المطلوبة.

سفير الأردن السابق في الأمم المتحدة