أوان إعادة المهاتما غاندي

 استُـقبِل الفوز الساحق غير المتوقع الذي حققه حزب المؤتمر في الانتخابات الهندية العامة التي جرت مؤخراً بالنشوة والحبور. ويعتقد العديد من الناس أن حزب المؤتمر، مع التزامه بقيم العلمانية، والنمو الاقتصادي، ومساعدة الفقراء، أصبح الآن يمتلك التفويض الرسمي لتحويل الهند إلى قوة عظمى. ويشعر أصحاب المصالح التجارية والمالية بصورة خاصة بسعادة غامرة إزاء هذه النتيجة، ويتباهون بمنجم الثراء الذي بات في متناول أيديهم مع استمرار حزب المؤتمر في تحرير اقتصاد الهند.

اضافة اعلان

والأميركيون سعداء بأن اليسار الهندي المزعج، الذي تضاءل نفوذه إلى 24 مقعداً فقط، بات خارج الحكومة تقريباً. لقد حاول الشيوعيون الهنود في العام الماضي إسقاط الحكومة التي كان حزب المؤتمر يقودها، وذلك على أمل إحباط الاتفاق النووي الذي توسطت فيه الولايات المتحدة، والذي تعهدوا بإفشاله.

أما عن التهديد الذي يفرضه اليمين فإن كل من يتمنى السلام في المنطقة وتخفيف التوترات داخل الهند بين طوائفها الدينية المختلفة يشعر بالارتياح لهزيمة حزب باهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي. والحقيقة أن الاستراتيجية التي تبناها حزب باهاراتيا جاناتا والتي تتلخص في وصم حزب المؤتمر بالتهاون مع الإرهاب واتهام المسلمين بأنهم يشكلون خطراً يهدد وجود الهند أخفقت تمام الإخفاق في تحقيق أي شيء.

ولكن من المؤسف أن المسار الاقتصادي الذي يخطط له حزب المؤتمر، رغم أنه قد يعزز من النمو في الأمد القريب، إلا أنه في نهاية المطاف لابد وأن يصطدم بكل من هدفي المساواة والاستدامة. ورغم الكلام عن "النمو الشامل" فإن فجوة الثراء في الهند قد اتسعت إلى حد كبير أثناء السنوات الماضية التي شهدت نمواً اقتصادياً سريعاً إلى حد غير عادي.

إن غالبية الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية على مستوى العالم يعيشون في الهند. وفي حين أن إدارة الثروات الخاصة أصبحت من أهم صناعات النمو بين الأثرياء الجدد في الهند، والذين بلغ تعدادهم حوالي مائتي ألف، فإن ثمانمائة مليون هندي يعيشون على أقل من دولارين يومياً.

كما بلغت إمدادات الهند من الماء مداها الأقصى من الإجهاد، فضلاً عن الانحباس الحراري العالمي الذي يعمل بسرعة على إذابة الكتل الجليدية على قمم جبال الهيمالايا والتي يعتمد عليها الملايين كمصدر للمياه. فضلاً عن ذلك فإن تغير المناخ يهدد بخفض الإنتاج الزراعي بنسبة قد تصل إلى 40% بحلول العام 2080، حيث سيسجل تعداد سكان الهند آنذاك زيادة مقدارها 450 مليون نسمة.

وعند تلك النقطة، فإن مؤسسة ماكينزي وشركاه الاستشارية تتوقع أن يكون تعداد سوق المستهلكين من أبناء الطبقة المتوسطة الهندية قد بلغ ستمائة مليون نسمة، أي ضعف تعداد سكان الولايات المتحدة حالياً. والحقيقة أنه لخبر مثير بالنسبة لتجار التجزئة الباحثين عن أسواق جديدة. ولكن ماذا عن المليار نسمة المتبقين من سكان الهند آنذاك؟ ومن أين ستأتي الموارد اللازمة لتصنيع كل الأغراض التي سوف يشتريها هؤلاء المستهلكون الجدد؟

لقد تحدَّد مسار التنمية في الهند في الثاني والعشرين من تموز (يوليو) 1947، حين قررت الجمعية التأسيسية الدستورية في الهند وضع عجلة الإمبراطور أشوكا (عجلة دارما) في محل مغزل المهاتما غاندي اليدوي على العَـلَم الوطني الهندي. وكان ذلك القرار الرمزي بمثابة الإعلان عن رفض ما تخلت عنه الحكومة الجديدة آنذاك لدى تسلمها للسلطة: أو رؤية غاندي لمجتمع زراعي منصف ومستدام وقائم على الاكتفاء الذاتي وتقليص الاستهلاك إلى أدنى مستوياته.

في نظر غاندي كان المغزل اليدوي رمزاً لضرورة تحمل المسؤولية الشخصية عن الاستهلاك كخطوة أولى نحو تحقيق العدالة والحرية من أجل الجميع. ولكن جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند، كان مؤمناً بالتصنيع والتحضر، وكان يطلق على مشاريع السدود الضخمة التي تعهدت حكومته بإقامتها "معابد الهند الحديثة".

في الخطاب الشهير الذي تحدث فيه عن موعد الهند مع القدر وعد نهرو الهنود بأن حكومته سوف تسعى إلى "جلب الحرية والفرص للرجل العادي، وللفلاحين والعمال في الهند؛ كما وعد بمحاربة الفقر والجهل والمرض والقضاء عليهم؛... وبضمان العدالة والحياة الكريمة لكل رجل وامرأة". غير أن الغالبية العظمى من أهل الهند ظلوا ينتظرون تحقق هذه الوعود طيلة ثلاثة وستين عاماً.

ومع عودة حزب المؤتمر إلى السلطة فإن الوريث المنتظر لرئيس الوزراء الحالي مانموهان سينغ هو راهول غاندي (39 عاماً) ابن حفيد الرجل الذي بذل تلك الوعود. ويتوقع المراقبون أن يتولى غاندي الشاب منصب رئيس الوزراء في غضون عامين.

إن التحدي الأساسي الذي يواجهه ويواجه بلده ليس التحول من نظام اقتصادي أكثر اعتماداً على الدولة إلى نظام أقل اعتماداً عليها كما يعتقد العديد من المهللين لانتصار حزب المؤتمر.

حين سُـئِل عن رأيه في الحضارة الغربية أجاب غاندي بجملته الشهيرة: "إنها لفكرة طيبة". كما قال أيضاً: "إن الأرض توفر ما يكفي لإشباع حاجة كل إنسان، ولكن ليس كل إنسان جشع". ففي رأي غاندي أن الجشع قادنا إلى العنف، والعنف قادنا إلى النـزعة العسكرية، والنـزعة العسكرية قادتنا إلى الحرب، والحرب قادتنا إلى الفناء. وكانت فلسفة نبذ العنف التي تبناها غاندي تستهدف أبسط أشكال العدوان البشري: اشتهاء المرء لما يزيد عن نصيبه".

إن التحدي الأساسي الذي يواجه الهند الآن يتمثل في تبني فلسفة غاندي ووضع تصور جريء لمستقبل يختلف عن حاضر الغرب. لا شك أن لا أحد يتوهم أن الهند أو أي دولة أخرى قد تهجر مدنها سعياً إلى حياة بسيطة كتلك الحياة التي جاهد غاندي لكي يعيشها؛ ولكن هذا لا يعني أن الهند لا تستطيع أن تستند إلى قيم غاندي الأساسية باعتبارها وسيلة لإلهامها.

إن راهول غاندي يحمل نفس اسم المهاتما، وإن لم يكن ينتمي إلى نفس نسبه (فهو ليس من أقربائه). وإن كانت الهند محظوظة فلسوف يسمح راهول لنفسه حين يتولى زعامة حزب المؤتمر باستلهام رؤية المهاتما غاندي للهند بقدر استلهامه برؤية جده الأكبر نهرو لها. فبفعل الاقتران المعقد بين أفكار هذين الرجلين ولِدَت الهند المستقلة. ولقد حققت رؤية نهرو للهند ما حققته من إنجازات؛ والآن ربما آن أوان العودة إلى رؤية غاندي لها.

*  كبيرة زملاء معهد السياسات العالمية وزميلة جمعية آسيا. وهي مؤلفة كتاب "كوكب الهند: الصعود المضطرب لأضخم ديمقراطية ومستقبل العالم".

خاص بـ"الغد" بالتنسيق مع بروجيكت سنديكيت