بوتين.. رجل المخابرات الذي يحاول قيادة العالم (تحليل)

87443Image1-1180x677_d
87443Image1-1180x677_d

أحمد غنيم- لا ينفك خصوم "فلاديمير" على وصفه بـ"الدهاء"، وبأن "طموحه السياسي" أربك المشهد العالمي بعدما أعاد رسم صورة جديدة تدريجية للسياسة الخارجية الروسية لبلد كان غارقاً في متاعب ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي.

اضافة اعلان

خلّف انهيار المعسكر الشرقي، تفرداً أميركياً، نما خلاله مفهوم "القطب الأوحد" الذي أخذ العالم إلى مطبخ "واشنطن" خلال سنوات عديدة، حيث أعدت للشعوب وصفات "ديمقراطية" أو "جمهورية" بالتناوب.

تزامن دخول بوتين الحياة السياسية، العام 1991، مع إعلان استقلال روسيا الاتحادية، وتولى الزعيم السوفياتي بوريس يلتسن، أول رئاسة فيها، واستمر في الحكم حتى العام 1999.

كان عهد يلتسن مريرياً، وكانت روسيا تعاني بشدة من أزمات سياسة واقتصادية واجتماعية، وهو الرئيس الذي أطلق ما عرف في ذلك الوقت بـ"العلاج بالصدمة"، الذي حول فيه اقتصاد البلاد من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق والشروع بمبدأ الخصخصة.(1)

يومها كان الرجل القادم من المخابرات الروسية "كي جي بي"، فلاديمير بوتين، يبني طموحاً سياسياً في سانت بطرسبرغ "لينينغراد" العاصمة السابقة لروسيا القيصرية، حيث مسقط رأسه قبل أن ينتقل إلى موسكو العام 1996، لينضم إلى إدارة يلتسن.

في موسكو تدرج في مناصب مختلفة في ديوان الرئاسة الروسية، حتى استلم منصب مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (1998)، ثم أصبح رئيس وزراء البلاد (1999)، وقائماً بأعمال يلتسن في العام نفسه بعد استقالة الأخير.(2)

انتخب بوتين في العام 2000، كثاني رئيس لروسيا الاتحادية، وأعيد انتخابه العام 2004 لغاية 2008، وهو العام الذي جرى فيه انتخاب دميتري ميدفيديف، رئيساً ثالثاً للبلاد، واختير فيه بوتين رئيساً للحكومة، قبل أن يعاد انتخاب الأخير رئيساً العام 2012 حتى يومنا هذا.

شهدت فترة حكم بوتين، الأولى ازدهاراً اقتصادياً في البلاد، ارتفعت فيه القدرة الشرائية للمواطنين، بحسب تقارير عدة، وهو ما ساعد "فلاديمير" على رسم صورة أخرى له ولطموحه السياسي.

يرى فيه مؤيدوه "قيصرا" أعاد "الإمبراطورية" الروسية إلى الخارطة الدولية، بعد سنوات من الغياب، فيما يعتبره معارضوه "دكتاتورا"، شديداً جداً على معارضيه.

ولعل العنوان الأبرز الذي قاده بوتين العام 2008، عندما كان رئيساً للوزراء، تمثل في غزو جورجيا بشكل خاطف وسريع، بعد هجوم الأخيرة على مقاطعتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا اللتان انشقتا عنها لصالح الولاء لموسكو.

اعُتبر يومها أن بوتين أراد أن يوصل رسالة إلى الغرب بشأن هذا الهجوم، وبأن روسيا قادرة على الدفاع عن نفسها ضد أعدائها (3).

وسبق ذلك، اندلاع ثورتين في كل من أوكرانيا وجورجيا أطاحتا بزعيمين مواليين لروسيا، وهو الأمر الذي دفع موسكو لاتهام الغرب بتدبيرهما.

وبعد اندلاع الأزمة السورية في 2011، ساند بوتين الرئيس السوري بشار الأسد، بشدة، وأرسل جيشه إلى هناك لمقاتلة من أسماهم "المتشددين".

ويرى مراقبون أن "هذه كانت أولى توريطات الولايات المتحدة للروسيا في المستنقع السوري".

وفي العام 2014، أصدر الرئيس الروسي، أوامره إلى الجيش بالتدخل العسكري في أوكرانيا، انتهى بضم شبه جزيرة القرم.

واليوم، يقود بوتين، مواجهة على نطاق واسع جدا، حيث تتسارع وتيرة التحذيرات الغربية من غزو روسي وشيك لأوكرانيا، التي تحاول جاهدة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي وهو ما ترفضه موسكو.

وترفض موسكو توسع "الناتو" شرقاً قرب حدودها، والتي تعتبره خطراً استراتيجياً على أمنها وأمن حلفائها، فيما تقول التقديرات الغربية إن موسكو حشدت أكثر من 130 ألف جندي على حدود أوكرانيا استعداد لغزو قد يبدأ خلال أيام.

لكن روسيا تنفي نيتها غزو أوكرانيا، في وقت سارعت فيه العديد من الدول إلى دعوة رعاياها في ذلك البلد لمغادرتها.

وهددت الولايات المتحدة والغرب بوتين، بعقوبات شديدة ستشمله شخصيا إلى جانب بلاده إذا شن غزوا على أوكرانيا.

قوة عسكرية كبرى

بالتزامن مع ذلك تقول التقديرات الغربية إن بوتين استطاع خلال فترة حكمه أن يبني جيشاً عصرياً، وهو بالتأكيد يختلف عن الجيش الرث الذي ورثه من الحكم السوفياتي.

أضف إلى ذلك، دخول روسيا في سباق تسلح ضخم إلى جانب عسكرة الفضاء، وتطوير أنظمة دفاع جوي فائقة القوة بشكل أغرى دولا أخرى لشرائها على غرار "إس 300" "إس 400".

وبلغت ميزانية الدفاع الروسية للعام 2021، نحو 42 مليار دولار بحسب موقع "غلوبال فاير باور" العسكري، الذي أشار إلى أن الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم بعد الولايات المتحدة.

"نهاية طموح"

يرى المحلل السياسي، الدكتور عامر السبايلة، في هذا الصدد، أن شخصية بوتين "ليست سهلة" فهو استطاع ترتيب ملفات كبيرة في روسيا سواء على الصعيد الداخلي والخارجي منذ وصوله للسلطة.

وأضاف السبايلة في تصريح لـ"الغد"، أن "بوتين يمتلك مهارة اللعب على حافة الهاوية"، لكنه انتقد في نفس الوقت المبالغة والتضخيم في مسألة تسويقه، على أنه "قيصر" و"مخلص" لروسيا وللعالم مما يسمى "إلإمبريالية" الأميركية، وكذلك بأنه "زعيم محبوب".

وأشار كذلك إلى "الأوليغارشية (4) في روسيا، التي ينتمي إليها بوتين وتجعله زعيم عصابة متحالفة مع المافيا".

ويعتقد السبايلة أن "فلاديمير انتهى منذ سنوات، فهو يعاني من أزمات تعصف ببلاده؛ فتنامي المعارضة السياسية الداخلية وقمعها وانتشار ضخم للفساد وتراجع الوضع الاقتصادي مؤشرات على ذلك".

وبشأن الأزمة الأوكرانية، يعتبر أن ما يجري اليوم بشأنها "هو التحضير لروسيا ما بعد بوتين"، لافتا إلى أن "الرئيس الروسي أمام امتحان حقيقي لم يواجهه من قبل؛ لأن تداعيات الحرب ستكون كارثية على بلاده".

وقال إن "الحرب يريدها الغرب أكثر من روسيا نفسها. هم يريدون جر بوتين إلى هذا المستنقع من أجل نقل الأزمة إلى داخل روسيا وإلى روسيا ومحيطها".

وبين أن "شرعنة العقوبات الاقتصادية التي ستواجهها روسيا إذا غزت أوكرانيا كما يقول الغرب ستعيد روسيا سنوات إلى الوراء".

وأوضح أنه "إذا تم منع روسيا جراء العقوبات من التعامل بالدولار ونظام سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) سيعزلها عن العالم وسيجلعها تواجه أزمة اقتصادية شديدة".

وتابع: "أضف إلى ذلك أن الحرب الحقيقية هي حرب الغاز؛ فأميركا تريد توجيه ضربة قوية لخط غاز( نورد ستريم2) الروسي إلى ألمانيا".

وزاد: "في حال نجح الأميركيون بهذا التوجه عبر إيجاد بدائل للغاز الروسي الواصل إلى أوروبا، فإن ذلك سيعني ضربة قوية جداً لروسيا التي تعتمد في اقتصادها بشكل رئيسي عليه".

وقال المحلل السياسي إن "بوتين يعي خطورة هذه المسائل على مستقبله السياسي ومستقبل بلاده، ورغم أنه يعاني من جنون عظمة لكنه يدير الأمور بطريقة منطقية وليست رعناء كزعماء آخرين".

وبين السبايلة كذلك أن "بوتين يدرك أنه ليس الهدف الأول للغرب الذي يحاول إعادة ترتيب محوره، تمهيداً لمواجهة الصين مستقبلاً".

وأضاف: "روسيا عتبة وصول الغرب إلى الصين كما اعتقد".

يشار إلى أن بوتين التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ، في الخامس من الشهر الجاري، على هامش دورة الألعاب الشتوية الأولمبية في بكين.

ودعا الرئيسان آنذاك، إلى "حقبة جديدة" في العلاقات الدولية ووضع حد للهيمنة الأميركية، معلنين شراكة "بلا حدود" بين الجانبين.

وجاء في بيان مشترك نقلته "فرانس برس"، أن موسكو وبكين، "تعارضان أي توسيع للحلف الأطلسي مستقبلاً".

في اللقاء دعمت بكين مطلب روسيا بضرورة عدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، من جانبها، أبدت روسيا دعمها لموقف بكين بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين.

"لا يفل الحديد إلا الحديد"

السياسية وأمينة عام حزب الشعب الديمقراطي الأردني "حشد" (يساري)، عبلة أبو علبة، ترى أن أهم نقطة تميز الرئيس الروسي عن غيره من زعماء الدول هو مواجهة ما تسميها "الهيمنة" الأميركية والغربية عبر حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي يتمدد شرقاً باستخدام القوة العسكرية.

وأضافت أبو علبة: "بوتين يعمل على مبدأ لا يفلّ الحديد إلاّ الحديد".

وأشارت في تصريح لـ"الغد" إلى أن "الرئيس الروسي يدرك بعمق الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة التي تريد إخضاع العالم برمّته لسطوتها عبر وسائل مختلفة، عسكرية كانت أم اقتصادية أم سياسية بما في ذلك احتواء روسيا وإخضاعها".

وذكرت أن "ما يفعله بوتين هو مواجهة هذه السياسة وعدم الاستسلام لها، والإصرار على الاحتفاظ بروسيا قوية على الصعيد العسكري وقادرة على التصدي لتمدّد نفوذ الناتو حتى ولو على حساب قدراتها الاقتصادية".

وتابعت السياسية الأردنية: "الرئيس الأمريكي يقول: "إن الجيش الروسي هو من أقوى الجيوش في العالم"، وهذا صحيح ولكن الاقتصاد الروسي يعاني من الضعف لأنه يعتمد بصورة أساسية على بيع النفط والغاز أكثر من اعتماده على الإنتاج، إذ تذهب معظم المقدرات الاقتصادية والمالية نحو التصنيع العسكري وعسكرة الفضاء، وليس إلى استثمار هذه المقدرات في تطوير وسائل الإنتاج الحياتية والتشغيلية".

وأردفت: "بمعنى آخر إذا استطاعت روسيا أن تواجه الولايات المتحدة عسكرياً فمن الصعب جداً أن تواجهها اقتصادياً وتقنياً حيث الفوارق في مستوى الإنتاج عالية جداً لصالح الأخيرة".

وبينت أمين عام "حشد"، أن "من نقاط القوة الكبيرة لدى بوتين، تحالفه مع دولة عملاقة مثل الصين، وكذلك صادراته من النفط والغاز إلى أوروبا التي تبلغ نسبتها بين 35 – 40 % من حاجة الدول الأوروبية للطاقة، ناهيك عن وجود قواعد عسكرية أميركية منتشرة في الخليج العربي وسوريا، الأمر الذي يجعلها في مرمى الأهداف الروسية إذا ما قامت حرب بين الدولتين".

وزادت: "أما عن نقاط الضعف، فإن التحالف الأوروبي الأميركي في إطار الناتو والمصالح الاقتصادية المتبادلة، ليس من السهل تفكيكه، ناهيك عن تواضع حجم الناتج الإجمالي لروسيا نسبياً".

وختمت: "إضافة للقوة العسكرية الهائلة للولايات المتحدة وقدرتها على تدمير أهداف العدوّ. فإني اعتقد أن الحرب العسكرية لن تقع على هذه الصورة الكلاسيكية، وليس من مصلحة روسيا تحديدا أن تقع".

وبالعودة إلى بوتين، فكل ما كُتب عنه في الصحافة يشير إلى أن طموح الرجل السياسي أكبر من مجرد قيادة روسيا، بل إنه يسعى لقيادة العالم، ولكن هل يقع بالفخ الغربي؟.. الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت.

___________________________________________________________________________

هوامش

(1) رؤساء الاتحاد الروسي.. بوريس يلتسين و"العلاج بالصدمة"

(2) فلاديمير بوتين

(3) استراتيجية حافة الهاوية.. مغامرة بوتين الخطيرة في أوكرانيا

(4) الأوليغارشية الروسية: هم الأوليغارك من رجال الأعمال الذين جمعوا ثروات طائلة خلال عصر الخصخصة في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي.