ما التاريخ؟‏

"بومة أثينا"، قارورة زيت، حوالي 490-480 قبل الميلاد. متحف المتروبوليتان للفنون – (المصدر)‏
"بومة أثينا"، قارورة زيت، حوالي 490-480 قبل الميلاد. متحف المتروبوليتان للفنون – (المصدر)‏
ترجمة: علاء الدين أبو زينة هيئة التحرير – (هِستوري توداي) 8/8/2020 ‏فيما يلي، ينظر أربعة مؤرخين في السؤال الأكثر أساسية على الإطلاق؛ سؤال طرحه إي. إتش. كار منذ ما يقرب من 60 عامًا.‏ * * * ‏"التاريخ هو دراسة الأشخاص، والأفعال، والقرارات، والتفاعلات والسلوكات"‏ فرانشيسكا مورفاكيس، مرشحة لدرجة الدكتوراه في التاريخ في جامعة ليدز.‏ التاريخ روايات. من الفوضى يأتي النظام. ونحن نسعى إلى فهم الماضي من خلال تحديد وترتيب "الحقائق"، ومن هذه الروايات نأمل أن نفسر القرارات والعمليات التي تشكل وجودنا. بل وربما يكون بوسعنا أن نستخلص أنماطا ودروسا لتوجيه –وإنما ليس أبداً لتقرير- استجاباتنا للتحديات التي نواجهها اليوم. التاريخ هو دراسة الناس، والأفعال، والقرارات، والتفاعلات والسلوكيات. وهو موضوع آسر للغاية لأنه يلخص موضوعات تكشف عن الحالة الإنسانية بكل أشكالها، والتي يتردد صداها عبر الزمن: القوة، الضعف، الفساد، المأساة، والانتصار... ليس ثمة مكان تكون فيه هذه الموضوعات أكثر وضوحا من التاريخ السياسي، حيث تظل الجوهر الأصلي والأساسي للحقل، والنهج الأكثر أهمية من بين المناهج التي لا تعد ولا تحصى لدراسة التاريخ. ومع ذلك، لم يعد التاريخ السياسي شائعاً وأصبح عتيق الطراز، وتعرض إلى فقدان السمعة والذم، وجرت شيطنته –خطأ- على اعتبار أنه مستهلك وغير ذي صلة. وكانت النتيجة تآكلا يعتد به في المنفعة المتأتية من طلب، وشرح، وتقطير دروس الماضي. الغرض الأساسي من التاريخ هو الوقوف في قلب نقاش متنوع، متسامح، وصارم فكريا حول وجودنا: أنظمتنا السياسية، وقياداتنا، ومجتمعنا، واقتصادنا وثقافتنا. ومع ذلك، فإن النقاش المفتوح والحر -كما هو الحال مع العديد من مجالات الحياة- غالبا ما يكون مفقودا وليس من الصعب تحديد سبب هذا الانعدام للتسامح. ‏ يمكن أن تكون ‏كتابة التاريخ أداة قوية؛ وهي التي شكلت الهويات، لا سيما على المستوى الوطني. وهي، بالإضافة ذلك، تمنح أولئك الذين يسيطرون على السرد القدرة على إضفاء الشرعية على الإجراءات، والأحداث، والأفراد أو تشويه سمعتهم في الوقت الحاضر. ومع ذلك، فإن حشد التاريخ وإرساله إلى المعركة لمجرد تلبية احتياجات الحاضر هو سوء استخدام له وإساءة إليه. لا ينبغي أبدا أن يكون التاريخ سلاحا في قلب الحروب الثقافية. ومن المحزن مرة أخرى أنه كذلك: حيث يستخدمه بخرق أولئك الذين يسعون عمدًا إلى فرض أجندة أيديولوجية واضحة. لقد أصبح التاريخ خادماً لسياسات الهوية وجلد الذات. وهذا يعزز الفهم الضعيف أحادي البعد للماضي فقط، ويقلل باستمرار من فائدة هذا الحقل. إن التاريخ يقف عند مفترق طرق؛ وينبغي أن يرفض اتباع اتجاه العصر. * * * ‏"لدي تفضيل للمؤرخين الذين يبحثون في "لماذا" و"كيف"‏" شانداك سينغووبتا‏‏، ‏‏أستاذ التاريخ في بيركبيك، جامعة لندن‏ أي دراسة دقيقة البحث وحسنة الحجة لأي جانب من جوانب الماضي تعتبر، بالنسبة لي، تاريخا. لدي تفضيل للمؤرخين الذين يحققون في "لماذا" و"كيف"، ولكن بشكل عام، أعتقد أن نطاقنا يجب أن يكون واسعا وشاملا قدر الإمكان. وأنا كبيرة السن بما يكفي لأتذكر الوقت الذي كان فيه تاريخ المرأة حقلا منفصلا -ترك، في العديد من الجامعات، لبرامج دراسات المرأة- ولم يعترف المؤرخون بوجود أشخاص غير بيض إلا في سياق التاريخ الإمبراطوري. في ذلك الوقت -وأنا أتحدث فقط عن أواخر الثمانينيات- كانت أقسام اللغة الإنجليزية والأنثروبولوجيا، وحتى تاريخ العلوم في كثير من الأحيان، أكثر مغامرة في معالجة تاريخ "الآخرين"، لكنَّ عملها، كما أخبرنا المؤرخون "الحقيقيون" في كثير من الأحيان، لم يكن تأريخا مناسبا: "إنهم يستخدمون الروايات كدليل، بحق السماء! هل اقترب أي منهم من أرشيف"؟ ‏ إذا كانت الأمور أفضل اليوم في أقسام التاريخ، فذلك لأنه أعيد رسم حدود الحقل. ولكن ما تزال لدينا حدودنا التي لا تفرضها جميعها مؤسساتنا أو سلطات تمويلنا. كم عدد أقسام التاريخ التي يمكن أن تستبعد مرشحة ممتازة، بخلاف ذلك، فقط لأن مصادرها أدبية في الغالب؟ الكثير جداً، أجرؤ على القول، بما في ذلك مؤسستي. ربما اختفت العديد من القيود القديمة للحقل، لكن عددًا غير قليل من الأسوار القديمة ما تزال في انتظار ركلة تطيح بها من حذاء جيد التوجيه.‏ مما لا شك فيه أن التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي أساسي؛ وكذلك هو تاريخ أوروبا وأميركا. لكن هذه ليست ألف وياء التاريخ كحقل. إننا ما نزال لا نولي اهتمامًا كافيًا لتاريخ الأفكار، والفنون، والطب، والفلسفة، والترفيهك والتكنولوجيا، سواء في أوروبا أو أميركا أو في أي مكان آخر. كما أننا لا نشعر بالراحة بشكل خاص بشأن مقاربات السير الذاتية للتاريخ. لا يمكن معالجة أي من هذه الموضوعات التي يحتمل أن تكون مثرية ما لم نتخل عن معادلتنا الرجعية للأرشيف بمجموعة من حزم الورق الصفراء. لن يكون من السهل إزاحة هذا الوثن، لكنني أود أن آمل بأن تتخلى عنه الأجيال القادمة من المؤرخين بقناعة أكبر من التي تمكن جيلي من حشدها. * * *‏ ‏"التاريخ هو في الأساس نظام لحل المشكلات"‏ ‏ماركوس كولا‏‏، ‏‏محاضر في التاريخ الأوروبي في كنيسة المسيح، أكسفورد‏. ‏على الرغم من مرور ما يقرب من 60 عاما منذ أن طرح إي. إتش. كار E.H. Carr السؤال لأول مرة عن ماهية التاريخ، فإن الطلاب الجامعيين ما يزالون يجدون الكثير لتفكيكه في إجاباته. في الواقع، تمتع كتاب كار الذي صدر في العام 1961 "‏‏ما هو التاريخ"؟ بفترة صلاحية أطول من معظم أعمال التاريخ الفعلي.‏ لكنها حقيقة مثيرة للانتباه أن كتاب "‏‏ما هو التاريخ"؟‏‏ ما يزال مرجعا يعود إليه المعلمون والطلاب في كل مكان. بعد كل شيء، ربما تدهشنا الكثير من أطروحة كار والمناقشات التي كان يساهم الآن، بينما نحاول الإجابة عن السؤال، باعتبارها قديمة بشكل غريب. وتشمل السنوات الـ 60 التي مضت منذ ذلك الحين ظهور ما بعد الحداثة، وصعود التاريخ الجنساني و"طفرة الذاكرة"، على سبيل المثال لا الحصر. ويعيش طلاب اليوم في عالم فكري مختلف تمامًا. ‏ ‏من الواضح أن لأفكار كار صدى مع حساسياتنا المعاصرة أكبر من أفكار منتقديه، الذين ظلوا متمسكين بفكرة المؤرخ الموضوعي متحرراً من جميع الافتراضات الراهنة. على النقيض من ذلك، رأى كار أن التاريخ هو في الأساس تخصص لحل المشكلات. وقال إنه لا ينبغي للمؤرخين أن يجردوا أنفسهم من الوهم بأنهم يستطيعون الوقوف بطريقة أو بأخرى خارج العالم الذي يعيشون فيه فحسب. ينبغي في الواقع أن يتبنوا حقيقة أن دراسة الماضي يمكن أن تكون موجهة نحو احتياجات الحاضر.‏ يستطيع المرء أن يرى على الفور جاذبية مثل هذه الحجة اليوم. في عالم أكاديمي تتعرض فيه العلوم الإنسانية لضغوط أكبر لتبرير أهميتها أكثر من أي وقت مضى، فإن دراسة "الماضي من أجل الماضي" لم تعد مرضية. لكنني لا أعتقد أن هذه هي القصة بأكملها. بدلاً من ذلك، أشعر بأن الانبهار الدائم بكار يعكس شيئا أكثر جوهرية في كيفية نظرتنا إلى العلاقة بين الماضي والحاضر. على سبيل المثال، نحن بالتأكيد أقل ميلاً من الأجيال السابقة إلى المطالبة بخطوط قسمة جامدة بين "التاريخ" من جهة، و"الذاكرة" أو "التراث" من جهة أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، نحن أكثر ديمقراطية بشأن من نعتقد أن التاريخ ينتمي إليه: من هو الذي يشمله من الماضي، ومن هو الذي يمكن أن يستفيد منه في الحاضر.‏ سوف ينظر كل مؤرخ إلى العلاقة بين الماضي والحاضر بشكل مختلف. ولكن، كان من بين إنجازات كار العظيمة تحديد توترات هذه العلاقة باعتبارها المحرك الحقيقي للحقل. ‏ * * * ‏"التواريخ مفيدة لإخبارنا بكيف وصلنا إلى "هنا"‏ ‏فريدة زمان‏‏، ‏‏أستاذة مشاركة في التاريخ، جامعة أكسفورد‏. إحدى الطرق لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال هي أن نسأل أنفسنا ماذا ولمن هي التواريخ؟ قد تكون نقطة البداية الشائعة هي أن التواريخ مفيدة لإخبارنا بكيف وصلنا إلى "هنا". وقد تتخذ مثل هذه التواريخ شكل قصص الأصل والنشوء، أو الروايات الخطية نسبيًا، وربما الغائية -كيف وصلنا إلى تنظيم مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسية بالطرق التي لدينا الآن، على سبيل المثال -أو أنه، كما يذهب القول غير معروف المصدر: سلسلة من الدروس التي يجب التعلم منها من أجل تجنب عار التكرار. ‏يخفي مثل هذا الفهم للتاريخ في طياته احتمالًا أكثر إثارة ومشحونا -وإن لم يكن بالضرورة متناقضًا. تمامًا كما قد ننظر إلى الماضي لفهم الطرق المعقدة التي لا تعد ولا تحصى التي ظهر بها عالمنا الحالي بشكل أفضل، قد يعكف المؤرخون أيضا على مهمة إلقاء الضوء على عوالم غير متحققة، وعلى تمثيلات أخرى ربما كانت لتوجد. على عكس الحدس، تساعدنا مثل هذه التواريخ على فهم عصرنا بشكل أفضل، إما من خلال التأكيد على احتمالات العالم من حولنا أو، اعتمادًا على زاوية النظر، القوة الدائمة للهياكل المسؤولة عن غلق تلك المسارات الأخرى. ‏ تتطلب هذه الأنواع من التواريخ الاهتمام -وغالبًا استعادة وإعادة بناء- الروايات والرؤى التي فُقدت في السرديات التاريخية السائدة. وقد ركز عملي الخاص على الثورات الفاشلة والرؤى السياسية الفاشلة في أوائل القرن العشرين. وعلى نطاق أوسع، قد نعتبر أن إحدى المهام الأساسية للتاريخ هي الكشف عن التعقيد والتعددية اللذين عاش معهما الناس في الماضي. ويمكن لمثل هذه التواريخ أن توضح مدى اختلاف تفكير الناس في العالم من حولهم ونوعية ارتباطهم به، بما في ذلك ابتكار طرق أخرى لتسجيل أفكارهم وتجاربهم. كان الكثير من هذه التضاريس هامشيًا بالنسبة لـ"التاريخ الصحيح". وقد لاحظ غاندي ذلك في العام 1909، عندما رفض التاريخ التقليدي وقلل من شأنه باعتباره مجرد سجل للحرب. ومن خلال استعادة ما تم تصنيفه ونسيانه -على سبيل المثال، تقاليد المعارضة الراديكالية التي تم إغراقها، أو حركات المقاومة المناهضة للاستعمار التي لحقت بها الهزيمة- فإن التاريخ يمكن أن يخدم بدلا من ذلك الغايات التحررية أكثر بكثير، ويفتح مساحات من الاحتمالات النقدية والتخيلية لعصرنا الحاضر.‏ *نشر هذا الموضوع في مجلة History Today، طبعة المجلد 70، تحت عنوان: What is History? [email protected]  اقرأ المزيد في ترجماتاضافة اعلان