التنزه الفضولي

منذ  أسبوعين أو يزيد، والناس يترقبون العاصفة التي قيل إنها ستحل على  البلاد في الثلث الأخير من كانون الثاني (يناير) الحالي؛ فالعواصف في إقليمنا لا تقتصر على الأمطار والثلوج والغبار التي أصبح لها أسماء ودرجات وآثار.اضافة اعلان
هذه المرة، جرت تسريبات مبكرة بأن المنطقة على موعد مع عاصفة لم يأت مثيل لها منذ ثمانين عاما، الأمر الذي أثار الجميع لمتابعة الأخبار، وفتح شهية العاملين في مجال التنبؤات الجوية على إصدار النشرات بسرعة وتفصيلات زادت من اهتمام المتابعين، وأذكت المزيد من المنافسة بين الجهات التي انشغلت بتتبع العاصفة وتحديد مسارها وشدتها وإيقاعها وتأثيرها؛ فمنهم من رأى أنها ستكسو جبالنا وسهولنا بالبياض، ومنهم من رأى أنها لن تكون أكثر من منخفض يلقي بأمطاره الممزوجة بالبرد على أجزاء من البلاد.وآخرون وجدوا في الخلاف مناسبة ليقدموا أنفسهم إلى عالم الرصد الجوي، فأعدوا نشرات تفصيلية تجاوزت في توقعاتها ما قالته الأطراف التي اعتدنا عليها في المنخفضات التي عشناها سابقاً.
في وسط هذا التباين، ضاعت الحقيقة وزاد التشويش، واستشرت الفوضى؛ فتدافع الناس على المتاجر والمخابز وبيوت التموين ومحطات الوقود، في سباق محموم أتى على رفوف الخبز والمعلبات وكل المواد التي ظن الناس أنها ستساعدهم على إدامة المد الغذائي لأسرهم خلال الأيام التي قال بعض الراصدين إنها ستؤثر على مظاهر الحياة العامة.
اختلافات الراصدين الجويين، وتهافت الناس على السلع التموينية، وتحول طواقم إعلام إلى مزاج أشبه بمزاج تغطية الحرب، وبحث البعض في خزائن ملابسهم عن حطاتهم الحمراء و"كبابيتهم" الداكنة، كانت أولى مظاهر الاستعداد للأحداث التي تهيأ الناس لاستقبالها.
مئات "الفيسبوكيين" تحولوا إلى خبراء أرصاد وناشرين لها؛ وبعضهم استعار صورا من عواصف سابقة، وآخرون تابعوا أقوال وتصريحات الجهات الرسمية والأهلية، فتحول المجتمع الأردني إلى جمهور يراقب أوضاع الطقس ويعلق عليها لحظة بلحظة.
ومثلما يحدث في مباريات كرة القدم التي ينقسم فيها المشجعون بين الفرق المتنافسة، تحول غالبية الناس إلى تبني أحد النماذج الثلاثة التي تحدث عنها الإعلام. فقد انحاز البعض لأطروحة دائرة الأرصاد الجوية؛ في حين رأى البعض الدقة فيما قدمه موقع "طقس العرب"، وروج بعض آخر للقراءات التي قدمتها بعض المراكز التي دخلت على الساحة حديثا.
وبالرغم من الجهود التي قامت بها المؤسسات المعنية والمتطوعة، ومرور العاصفة بسلام، إلا أن هناك الكثير من الأسئلة والقضايا التي أثارها الحدث وأسلوب التعامل معه. فقد كشف المشهد، وبرمزية عالية، عن مستوى تنافس غير إيجابي بين جهاز الرصد الجوي الرسمي والآخر في القطاع الخاص؛ وإقبال الناس على التموين والتخزين. وتهيأ الجميع لتعطيل أعمالهم؛ وانشغل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بالعاصفة وأخبارها؛ واستشرت روح الشكوى والتذمر.
هذه الأمور وغيرها تجعلك تتعجب من الأوضاع التي آلت إليها مجتمعاتنا، وتتساءل عن الأسباب والظروف التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم. فقد كانت الأمطار والثلوج دوما مبعث أمل وبشائر خير وخصب، يستقبلها الناس بحب وترحاب، ويتهيؤون للتعاون والتكافل والتقارب خلالها بعيدا عن الأنانية والهلع والتذمر.، يترقبها الناس بفارغ الصبر، ويستقبلونها بالأناشيد والأغاني والكثير من الفرح والسعادة.
مع حلول الأربعاء الماضي، كانت الطفيلة وعجلون والكرك والشراة تزدان بحلتها البيضاء، في حين أصبحت عمان مشمسة، شوارعها خالية من أي آثار للعاصفة. لكن الجدل مستمر حول ما حصل، وارشادات الحكومة مستمرة للجميع بأن يتجنبوا التنزه الفضولي.
"التنزه الفضولي" اصطلاح استوقفني كثيرا،إذ يبدو أن الحكومة  ترى وجود نوعين من التنزه؛ أحدهما فضولي والأخر بلا فضول "بدافع الواجب". فالحكومة مع نزهة بلا فضول، ولا تنصح أبدا بأن يكون المتنزه فضوليا. وربما أن في هذا الاصطلاح إجابة عن السؤال الأبدي: لماذا لا تتطور السياحة في بلادنا بالرغم من توفر كل عناصر ازدهارها؟ فنحن منحازون لسياحة بلا فضول، إذ مسموح للسائح أن ينظر لأكوام الحجارة بلا قصة تاريخية، كما ندعو المواطنين إلى نزهة غير فضولية.