الخبز مثل الرز أحيانا

في ثقافة بلاد الشام مَثل واسع الانتشار يستخدمه الناس في مجالسهم كلما واجهوا موقفا يقتضي المقارنة او احسوا بالتمييز والتفريق في التقدير او المعاملة، حيث يعبرون عن استغرابهم بالقول "العز للرز.. والبرغل شنق حالو". وتختلف الروايات حول اصل المثل ومناسبة ظهوره، فالبعض يرى ان الأرز طبق الاغنياء في حين يعتمد الفقراء والفلاحون على القمح المسلوق الذي ينتج محليا بعد اضافة السكر والزبيب له. اما البعض الاخر فيعتقدون ان المثل يعبر عن نجاح احدى الزوجات التي كانت تتنافس مع الاخرى على رضا زوجها من خلال اعداد اطباق الارز التي يحبها وخسارة الاخرى التي ظنت ان زوجها يفضل البرغل مما دفعه الى إهمالها والانحياز الكلي للزوجة التي استعانت بالأرز للاستحواذ على قلبه على حساب منافستها.اضافة اعلان
لقد نشأ المثل وتجذر في الثقافة الشعبية قبل ان تزدهر الاحوال الاقتصادية لسكان بلاد الشام وقبل ان يصبح الارز طبقا اساسيا على موائد الفقراء والاغنياء كنتيجة لازدهار التجارة وانتشار المطاحن  التي حولت القمح الى دقيق ناصع البياض يصنع منه كل اشكال الخبز والكعك والفطائر وكل ما يلزم الاطباق التي تنتجها المؤسسات الغذائية المنتشرة في طول البلاد وعرضها.
بالرغم من كل هذه التغيرات ظلت بعض انواع الخبز المادة الاستهلاكية الاولى لفقراء البلاد يشترونها بثمن معقول وتكفل لارباب الاسر الشعور بقدرتهم على تزويد بيوتهم بحاجتها من الخبز مهما تبدلت الاحوال او شحت الموارد. وقد ادركت الدولة اهمية هذا الشعور في ادامة حالة الاستقرار فحرصت على دعمه ليبقى في متناول الجميع بصرف النظر عن اوضاعهم ومستوى دخولهم.
في الشرق الاوسط تُجمع الديانات السماوية الثلاث على قدسية الخبز فهو الثابت الوحيد مهما تنوعت الاطباق او انحسرت على موائد الاغنياء والفقراء ولا احد يحتمل ان يداس الخبز او يلقى على الارض لذا يحرص الجميع على صيانة النعمة من خلال تمارين ليس ابسطها  تدريب الصغار على تقبيل  قطع الخبز بعد رفعها عن الارض فيما يشبه طقوس العبادة بغرض حماية هذه النعمة من الزوال.
اليوم لا احد ينكر اننا نخبز اكثر مما نأكل ونلقي باطنان من الخبز والارز ومواد غذائية اخرى في الحاويات المنتشرة في احياء المدن والقرى والمخيمات. ولا نختلف كثيرا مع ما تقوله الحكومة باننا ما نزال نشتري الخبز باقل من كلفته الفعلية. لكننا نجد صعوبة كبيرة في تصور ان الخبز الاردني يهرب للدول المجاورة.
نحن نعرف ان ماليتنا العامة بحاجة الى مراجعة وان سلوكنا جميعا "حكومة ومواطنين ومقيمين" بحاجة الى تغيير، لكن ذلك لا يتحقق بدون مصارحة دقيقة وموضوعية تشرح الواقع وتضع الاهداف وتبين ادوار الجميع في معالجة مشكلة مالية الدولة.
القول بأن احد موجبات رفع سعر الخبز تهريبه الى دول الجوار كلام فيه من المبالغة والغرابة ما يكفي لاضعاف الخطاب الحكومي ورزمة المسوّغات التي تتحدث عنها. الخبز الذي ينتج يوميا في الاردن يفيض عن حاجاتنا. والطحين الذي يقدم للمخابز بالأسعار المدعومة يزيد على حاجة المخابز ويباع في السوق السوداء وهذه الاسباب كافية لتنظيم السوق دون الحاجة الى اضافة موضوع تهريب الخبز الى بلدان الجوار. المواطن الاردني يحتاج الى خطاب يحترم عقله وليس إلى ما يشحنه عاطفيا.