عن الأرض، والسلام..!

لعل أسوأ تجسيد لمدى خسارة الفلسطينيين في علاقتهم بأرضهم هو أن أفضل ما يُعرض عليهم، كـ"حل عادل" لقضيتهم، هو مبدأ "الأرض مقابل السلام". بل إن هذا المبدأ ربما أصبح متقدماً كثيراً على ما يُتوقع لهم من "صفقة القرن". وكان هذا المبدأ قد أصبح –لشدة المثابرة على تسويقه وتكراره في السرد الجديد- مستقراً كمسلمة. لكن تطبيقه بشكله الموصوف –إذا تسنى تطبيقه من الأساس- لإغلاق ملف القضية الفلسطينية سوف يعني ببساطة تأييد خطأ أخلاقي وظلم بليغ، وتجنيا كبيراً على مفهوم الحقّ نفسه.اضافة اعلان
قدم هذا المبدأ تفسيراً لقرار مجلس الأمن رقم 242، على أساس انسحاب قوات الاحتلال من الأراضي (أو أراضٍ، حسب قراءة الكيان) التي احتُلت في العام 1967، (أي "التخلي عن الأرض")، في مقابل إنهاء جميع المطالبات الفلسطينية وحالة العداء، (أي "السلام").
يعطي المبدأ "السلام" للكيان الصهيوني في فلسطين، الذي يتم تطبيعه في المنطقة، والتسليم له بالاحتفاظ بأكثر من ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية. أما "الأرض" المقترحة، فهي الضفة الغربية وقطاع غزة في أحسن تقدير، والتي تمثل 22.95 % من مساحة فلسطين التاريخية فحسب. والمبدأ بالضبط مثل أن يحتل أحدهم بيتك كله ويقتل من أفراد عائلتك ويطردكم منه، ثم يُعرَض عليك أن يعطيك المغتصِب، أنت ونسلك، غرفة صغيرة بلا أثاث من بيتك، مقابل موافقتك على إسقاط قضيتك والكف عن المطالبة بشيء ومنحه السلام في بيتك المغصوب.
سوف تعني هذه الصفقة أن تصبح الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني، أصحاب 87 % من أرض فلسطين التاريخية، بلا أرض وبلا عودة وبلا أي مطالبات، ويُتركون للعيش في المنفى إلى الأبد. وفي الحقيقة، لم تتعلق حاجة الفلسطينيين يوماً بمجرد الأرض الفيزيائية. فقد اشترى الكثيرون منهم أراضٍي ومباني في المنافي وسجلوها بأسمائهم، لكن ذلك لم يحل لهم مطلقاً مسألة "الأرض" بمعناها المركب. وما يزال فلسطينيون يعيشون في فلسطين، على أرضٍ يمتلكونها، لكنهم لا يشعرون بالسلام ولن ينعموا به وفق التصورات المطروحة لتصفية القضية الفلسطينية.
"الأرض" بالنسبة للفلسطينيين، الذين هم أهل 48 و67 -إذا نسي أحد- هي العيش بسلام على أرضهم التاريخية في وطن حر وسيادي، مثلما يفعل بقية الناس في العالَم. ولن تلبي صيغة "الأرض مقابل السلام" هذه الحاجة لمعظم الفلسطينيين مع التخلي نهائياً عن أكثر من ثلاثة أرباع الوطن. ولن يكون تطبيقه سوى خضوع عاجز لقانون غير أخلاقي، "الحق هو القوة"، الذي يجعل العالَم غابة لا سلام فيها لمسالم أو مستضعف.
بالإحصائيات الموثقة، كان ما يمتلكه اليهود من الأرض الفلسطينية قبل النكبة مجرد 7 %. وفي أي حُكمٍ عادل، تكون هذه فقط هي الحصة التي يمكن أن يطالب بها أبناء مالكيها –قانونياً- في فلسطين. وسيعني أي شيء غير ذلك، ومنه "الأرض مقابل السلام"، إجازة استيلاء غزاة على أرض شعب بالقوة وتطهيره عرقياً ومواصلة اضطهاد المتبقين منه، ثم الإقرار بالنتائج. ومن المؤسف أن يوصَف هذا بأنه "حل عادل" للقضية الفلسطينية.
يجسد هذا القبول بصيغة "الأرض مقابل السلام" هزيمة السرد العربي والفلسطيني أمام سرد العدو ومفرداته، بالإضافة إلى الهزيمة العسكرية. وعلى سبيل المثال، تطلق روايتنا الآن، بلا تفكير، أوصاف مستوطنين" و"مستوطنات" على المحتلين والمباني في مناطق 67 فحسب، بينما تم إسقاط هذا الوصف عن الغرباء الذين يحتلون الأراضي والمباني والفضاءات الفلسطينية منذ 1948. ولم يختلف عمل هؤلاء عن أسلافهم الأوروبيين الذين استعمروا أميركا، والذين كانوا يصفون أنفسهم في أدبياتهم نفسها بالمستعمِرين colonizers، وتجمعاتهم بالمستعمرات colonies قبل شطب هذه المفردات من السرد الأميركي. وهكذا، يبدو أن الذين جاؤوا إلى فلسطين واستولوا عليها وطهروا أهلها عرقياً وما يزالون يقتلون أبناءهم، أصبحوا مقبولين كـ"مواطنين"، ببساطة، والذين يختلفون عن "المستوطنين" أو "المستعمِرين. ومن المؤسف أن روايتنا السائدة تتعامل معهم على هذا الأساس الخاطئ
نعرف أن فرض أي اقتراحات تتنكر للحق لا يغيِّر العواطف ولا يلغي المطالبات المحقة ما دام وراءها مُطالِب. لكن الختم على صلاحية "الأرض مقابل السلام" وإعفاء الصهاينة في فلسطين التاريخية من وصفهم الطبيعي كمحتلين ومستعمِرين، لم يجلب أي مكاسب للقضية العربية والفلسطينية، بقدر ما جلب من الإذلال وتقلُّص المطالبات والحقوق. ومع ذلك، ما يزال الفلسطينيون وأنصارهم يتمسكون بالسرد الحقيقي والمطالب المحقة بالأرض، ولن يغيِّر روايتهم شيء.