الجرأة من موقع الضعف وأثرها الثقافي

موفق ملكاوي في البيئات المعطلة للتفكير المنطقي والموضوعي، لا بد أن تزدهر ثقافة التكفير والتخوين، ففيها تغيب عمليات التفكير الحقيقية، أو ما يمكن تسميتها «مهمة العقل»، ولا يتبقى سوى «المصارعة» سبيلا لإثبات الأحقية في الوجود والديمومة. في العام 1988 أصدر البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي كتابا بعنوان «آيات شيطانية»، أحدث ضجة كبير في المجتمعات الإسلامية. لكن الضجة الأكبر أحدثتها فتوى الإمام آية الله الخميني بإهدار دم الكاتب! في ذلك الوقت، كانت الحرب الباردة تلفظ أنفاسها الأخيرة، مفسحة المجال لنظام عالمي جديد آخذ بالتشكل، وهو العولمة التي استفادت من زخم دمج رؤوس الأموال وتدفق المعلومات عبر الحدود، كما شرحها توماس فريدمان بعد زهاء عقد من ذلك التاريخ في كتابه «السيارة لكزس وشجرة الزيتون». كان العالم الغربي أقل انفتاحا على الثقافة الإسلامية، فهو لا يرى فيها إلا حكايات «ألف ليلة وليلة»، والقصور والغواني والجواري والغلمان، والسماح بأربع زوجات. كان الفكر الغربي يتمحور حول مركزية الأسطورة في بنية المجتمع الإسلامي، لكنه كان جاهلا بالفعل بالمحددات الثقافية والفكرية التي يستند إليها في الأفعال وردودها. فتوى الخميني، ربما، أحدثت صدمة في العقل الغربي الذي لم يكن وقتها قد تعرف على مفهوم جديد سيفرزه العالم خلال سنوات قليلة، تتعدى فيه الصراعات المكونات القوميات، نحو صراعات المكونات الثقافية، وهو ما عبر عنه صامويل هنتنجتون بعد سنوات قليلة من مطلع التسعينيات في أطروحته «صدام الحضارات». مصطلح «الحرب المقدسة ضد الإرهاب»، أيضا، لم يكن شائعا حينها، فلم تكن حروب النفط التي ألبست بالقداسة قد بدأت بعد، رغم أن دوائر المخابرات الغربية كانت تتعامل مع الإسلاميين منذ عقد تقريبا، وتزودهم بـ»الفتاوى اللازمة» لتكريس جبهة أفغانستان والحرب ضد السوفيات أولوية لدى المسلم، حتى لو كان الثمن تراجع حضور فلسطين كبلد تحت الاحتلال في الفكر والوجدان! بعد تلك الفتوى، بدأ العقل الغربي يتساءل: لماذا يتوحب على الإنسان أن يتطرف من أجل أن يدافع عن بديهيات دينية يفترض بها أن تمتلك بذاتها أدوات الدفاع عن نفسها؟! هذا سؤال خطير، إذ لماذا سيحتاح دين رباني، أو رسول مختار من الخالق، إلى مخلوق ضعيف كي يدافع عنه ويعيد الأمور إلى نصابها؟! السؤال هنا؛ هل كان الخميني ينطلق من منظور ديني حقيقي حين أطلق فتواه الرنانة التي فتحت العيون على ما يكتنزه أهل الشرق من عنف بالغ في الخطاب وفي الفعل، أم أن المسألة سياسية خالصة تم تلوينها بلبوس الدين من أجل سباق الأحقية الدينية بين الشيعة والسنة، وتكريسا للطائفة التي ينبغي لها أن تتسيد على الأخرى من منظور الوعي بالكينونة العقدية؟! في محصلة الفتوى، لا بد لنا أن نلاحظ أن الخميني استطاع بفاعلية كبيرة أن يؤسس لثلاث ظواهر مهمة، الأولى: قصور الدين في الدفاع المنطقي عن ذاته. والثانية: وجوب سلوك العنف الدفاعي لكي يبقى الدين قائما وأن لا تهتز أركانه وقواعده. والثالثة: الجرأة على الفتوى من منظور الضعف، وهي أخطر ما أسس له، إذ سنرى مئات الفتاوى التي جاءت بعد ذلك مستندة إلى المنظور الخطير، والتي ساهمت بزعزعة استقرار المجتمعات الإسلامية الشرقية، وتعدى خطرها نحو الأقليات المسلمة في الغرب والتي تفاجأت بكينونتها الجديدة وبأنها «أقليات» غير مندمجة في «بيئة الكفر»، ووجوب انتهاج سلوك «التقية» إلى أن يتغير حالها، أو العمل على تقويض المجتمعات التي تعيش بها بما يسرع من خرابها. بفتوى الخميني، أصبح سلمان رشدي نجما عالميا كبيرا معروفا في جميع الدول. ومنها ولد آلاف المتطرفين الذين كانوا متأكدين أن الله اختارهم بالذات ليقيموا دينه فوق الأرض. ومن تلك الفتوى أيضا، «غار» المسلمون السنة، وأرادوا أن تكون لهم بصمتهم، فجاءت القاعدة وداعش وجبهة النصرة، وجند الشام، والقائمة تطول. لا نستطيع القول إن فتوى الخميني هي، وحدها، ما أسس لهذا الخراب «الثقافي» والاجتماعي، فالتنظيمات المتطرفة التي امتلكت منظريها كثيرة على مدار التاريخ الإسلامي. لكن هذه الحادثة يمكن أن تشكل أنموذجا للدراسة حول تأثيرات الأشخاص الاستقطابيين على مسار المجتمعات. والسؤال هنا؛ هل كنا في حاجة إلى مهرجين جدد يحولون الدين إلى سياسة والسياسة إلى دين؟!! أشك في ذلك! المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان