"الفهلوة" واستعراض "الفضائل"!

منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، أتابع، بشكل يومي، ما ينشر من مقالات، سواء كان على الصعيد المحلي، أو العربي. خلال تلك السنوات الطويلة، ظلت فكرة «الفهلوة» الكتابية تؤشر إلى كثير مما يتم إنتاجه من طبقة يفترض بها أن تكون نخبة مجتمعاتها. ما تزال مساحة المقالة في الكتابة العربية مرهونة للاستعراض، وطغيان الخطاب، ولـ»أبوية» استعلائية يظنها مقترفوها مستترة، بينما هي تعلن عن نفسها من وراء كل جملة.

اضافة اعلان


الأنا المتضخمة التي ينطلق منها الكتاب، تمنعهم من أن يروا أن ما يقدمونه يفترض أن يكون في إطار الاقتراحات، حتى لو كان الأمر مجرد تعليق على أحداث يومية. لكنهم يتعدون هذا الإطار، ويرسمون صورة لكتاباتهم على أنها صواب وحيد، ولا يمكن أن يلتقي معه أي رأي آخر، مذكرين القرّاء بمفاهيم «الصوابية السياسية» التي طورتها الشيوعية في مرحلة ما، من أجل محاولة تقويض القيم الغربية، والتي يتم من خلالها احتكار قراءة الأحداث وتفسيرها، لمصالح أيديولوجية، غير أنها في الكتابة العربية تأتي لمصلحة استعراض شخصي باهت لأنوات متضخمة، بينما لا تقدم شيئا في سياق الفكر والمعرفة.


كتابة المقالة العربية تقترح نماذج غير معرفية في تناول الموضوعات والأحداث، ولعل أكثرها وضوحا هو «كتابة الرأي»، والذي يفهمه الكتّاب العرب على أنه شكل كتابي يأتي من أجل كيل الاتهامات والسباب والشتائم، لا على أنه تقديم لفرضية يتم الدفاع عنها في سياق المنطق والشواهد.


أما الشكل الثاني، فهو ثنائية المعارضة والموالاة، والتي تأتي بشكل شديد السطوع في كتاباتنا العربية، نتيجة للاستقطابات التي تمارسها السلطة، والتي يتم بناء عليها فرز لموالاة نفعية في مقابل معارضة هشة، ففي الوقت الذي يكون أساس عمل الموالاة كيل المدائح لكل خطوات السلطة، تتصدى الأقلام المعارضة لشيطنة تلك الخطوات، بينما الفريقان لا يفككان البنى التي يكتبان عنها، ولا يعمدان إلى حشد الشواهد لرأييهما، بل يكتبان من منطلق «عنزة ولو طارت».


الشكل الثالث، وهو موجود بكثافة أيضا، يمكن تسميته «استعراض الفهلوة»، من خلال فرد العضلات الثقافية والمعلوماتية، ويأتي في كثير من الأحيان خارج سياق الموضوع، ولكنه تأكيد من الكاتب على «نخبويته»، وتفرده بـ»معلومات ثقافية» كثيرة تؤهله للفوز بمسابقة «بنك المعلومات»»، بينما في سياقات علم النفس تفسر مثل هذه الكتابة على أنها فوقية واضحة، وتأشير على تعظيم كاذب للنفس، وأيضا، انسلاخ من الكاتب عن محيطه، ما يجعل لغة التواصل بينه وبين المجتمع معطلة، وغير نافذة.


طبيعة المقالة نفسها تم العبث بها، فبدلا من أن تتشكل من فرضية يحشد الكاتب الشواهد والأدلة على صحتها أو نقضها، تحولت إلى مجرد فرد عضلات، أو دفاع مستميت عن سياسات أو إجراءات لا يمكن أن تكون صحيحة، أو فذلكات لغوية، أو تلميحات لشبكة العلاقات التي يحظى بها الكاتب، والتأكيد على قوة مركزه وداعميه الكثر.


مئات المقالات التي تنشر يوميا، لا يمكن وصفها إلا على أنها «غُثاء» واستعراض، سوى قليل جدا يعرف أصحابها وظيفة المقالة، ويتقون الله في الناس الذين يقرأون، وفي الدولة التي لا يشدون على يديها في سياساتها العشوائية.


هذه، جميعها، دلائل تحتشد للتأشير على تحطيم وظيفة المقالة من أداة لتفكيك البنى السائدة، والتأشير إلى المناطق الرخوة والتحديات، وتقديم مقترحات نظرية أو عملية لتخطيها، إلى مجرد كتابات لملء فراغ الصفحات أو المواقع الإلكترونية، ويقترحون وظيفة جديدة لها هي «تلميع» الكاتب لنفسه، وغالبا ما يكون ذلك على حساب الدولة والسياسات والمجتمع.


ربما هذا هو السبب الرئيس الذي بنى هوّة واسعة بين الإعلام والمواطن العربي الذي بات يرى في مواقع التواصل الاجتماعي طوق نجاة له من عبث وسائل الإعلام التقليدية. لكن إعادة الثقة عملية صعبة، وينبغي أن تمر بمراحل عديدة، أولها إشاعة حرية التعبير، والفرز المهني للمقالات. عندها يمكن أن يتعلم أولئك أبجديات كتابة المقالة!

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا