حكومات "ما يطلبه الجمهور"


في بلدنا وفي البلدان الشبيهة ببلدنا، يوجد موضوعان أساسيان يحددان الثقة (أو عدمها) بالحكومات: أولهما يشمل السياسات المتصلة بالموضوع الوطني/ القومي، سواء ما يتعلق بالصراع مع العدو أو صورة الوطن وميادين الكرامة الوطنية الأخرى، والثاني يشمل السياسات المتعلقة بما هو معيشي يومي مطلبي اقتصادي وبمسائل الكرامة الشخصية واحترام المواطن في حياته اليومية.اضافة اعلان
بالطبع يوجد تداخل بين الميدانين وبين وسائل تحقيقهما، ويتحدد النجاح بنوع "الخلطة" من هذه المكونات التي على الحكومة أن تتقن اختيارها، ذلك أن الشعوب بين زمن وآخر، قد تُبدل وتُغير أولوياتها وتعيد ترتيب احتياجاتها، ففي لحظات معينة تتقدم مسألة مثل الكرامة الوطنية على شؤون المعيشة، فيبدو الجمهور مستعداً للجوع مقابل الكرامة الوطنية، ولكن قد تنقلب الأمور بعد حين، فيصبح غياب سلعة ما من الأسواق عنصر غضب قد ينسى الجمهور بسببه القضايا الكبرى.
 وفي بعض الحالات يتقبل الجمهور قدرا من المقايضة بين الحاجات، فقد يتغاضى أو "يتغارش" الناس على قضايا كبرى لصالح أمور تبدو هامشية في زمن آخر.
لهذه القصة في الأردن، أي قصة الثقة بالحكومات، تاريخ قد يكون من المفيد المرور عليه. وبالطبع فإن هذه السطور لا تسمح إلا بإشارات وأمثلة مختصرة.
يشتاق الأردنيون ويتحسرون على حكومات وصفي التل وهزاع المجالي مثلاً، فكيف أديرت حينها مسألة الثقة؟
على الأغلب، أن الثقة لم تكن تعني "الرضى" بقدر ما كانت تتصل بالاحترام، فقد كانت الأولوية لثقة الحكومات بنفسها أكثر من ثقة الشعب بها.
دعونا نتذكر مثلاً أن هزاع المجالي هو صاحب أقصر الحكومات عمراً، فقد سقطت حكومته الأولى بعد أقسى موجة احتجاج وطني، فقد شكل حكومته تلك بهدف المصادقة على حلف بغداد، وقد رُفض الحلف، ونزل الجمهور إلى الشارع، فقدم هزاع استقالة شهيرة طالب فيها بالرجوع إلى الشعب احتراما له، ثم عاد بعد سنوات إلى حكومته الثانية التي استشهد وهو على رأسها.
اما رفيقه وصفي التل، فقد شكل ثلاث حكومات حتى عام 1966، وقد كانت تلك الفترة من أقسى الفترات في تاريخ الأردن المعاصر، كان الأردن محاطاً بالخصوم من الأشقاء إضافة إلى العدو الذي لم يكن يتوقف عن العدوان العسكري.
 وقد كان تصنيف الأردن عند الأشقاء الخصوم يضعه كدولة "رجعية" مقابل الدول "التقدمية". ولا يمكن أن ترصد وتحصى جيدا تفاصيل الحملات العربية على الأردن كحكومة وككيان وكشعب أحياناً في تلك الفترة التي لم تتوقف إلا بعد الهزيمة الجماعية للعرب العام 1967.
في الحالتين، لم يكن هناك سعي نحو رضى من النوع الذي تسعى إليه الحكومات الحالية،  وقد اتخذ الرجلان سياسات غير شعبوية بالمرة، لكنها كانت تمارس بثقة وتحظى باحترام شعبي، بالطبع إذا استثنينا المعارضة المنظمة التي كانت (وبشكل معلن ومفصح عنه)، تعتبر امتدادا للتيارات الرئيسية عربيا ودولياً، مع هامش استقلالية هنا أو هناك.
 وهذا لا ينقص من قيمتها ودورها وتضحياتها بالطبع، غير أنها كانت جزءا من سياق عام معلن ومعترف به، ولم يلبث أن انتهت بانتهائه، لتحل محلها معارضة جديدة بامتدادات جديدة عنوانها "إسلامي".
 وبالطبع كان الحكم في الأردن منخرطا في سياقات عربية ودولية أخرى، مع هامش استقلالية أيضاً، مكّن حكومة التل العام 1966 من إلقاء القبض على موظف كبير في السفارة الأميركية وطرده بعد أن ضُبط متلبسا بجرم توزيع المال على متظاهرين، كما مكن الحكومة مطلع العام 1970 من طرد السفير الأميركي نفسه.
باختصار، يمكن القول أن الحكومات في عدة مراحل استطاعت تقديم مزيج ذكي ودقيق من مكونات الثقة والاحترام، ولم تكن قد دخلت في ورطة الحكومات الأخيرة ومنها الحكومة الحالية التي تعتمد سياسات أقرب إلى برامج "ما يطلبه المستمعون" الإذاعية الشهيرة، التي لم تتمكن يوما من تلبية كل الطلبات.