معارضون جذريون بلا معارضة جذرية

منذ أكثر من عقدين، وفي عهود ما قبل "الانفتاح الديمقراطي" وتشريع العمل الحزبي، كانت مواقف المعارضة المحظورة والسرية تتحدد بشكل سهل ويسير، فقد كان لدينا بضعة تنظيمات تعمل وتناضل خارج القانون، تنتمي إلى مدارس وتيارات يسارية وقومية وإسلامية، وكان قرار الانتماء إلى واحد منها يعني أن المنتمي الجديد قد حسم أمره بالوقوف ضد السلطات بالمطلق وفي كل المجالات.اضافة اعلان
كان لدى كل تنظيم وثيقة اسمها البرنامج الحزبي أو السياسي، وهي ثابتة من حيث الجوهر، وتتغير نسبياً في بعض التفاصيل خلال فترات متباعدة، وكان مثل هذا التغيير في البرنامج، يتطلب اجتماعات وقرارات حزبية كبرى.
وكانت الخصومة بين الحزب والحكم، واضحة ومباشرة، فالحزب يرى نفسه بديلاً، ولديه خطته الجاهزة المتمثلة بالبرنامج الحزبي الذي سيحل محل برنامج الحكم. وكان هذا الوضع يتطلب أن تشمل المعارضة كل التفاصيل والسياسات والإجراءات الحكومية.
وكان منطق العمل الحزبي الجذري هذا، يقوم على أساس تأزيم حالة الخصم الطبقي الحاكم، وكان البحث عن نقاط التأزيم والعمل على تعظيمها من مهمات الحزب الرئيسية، وقد اشتهرت في الأحزاب اليسارية خاصة، فكرة اسمها "الأزمة الثورية" التي يصبح فيها الخصم عاجزا عن الحكم بالطريقة المعتادة، فتتهيأ الفرصة للثورة، فيما يكون الحزب جاهزاً كبديل ثوري وفوري.
وفق هذا المنطق، كان ممنوعاً على الحزب أن يتعاطى بإيجابية مع أي إجراء حكومي، وإذا حصل ذلك فإن الحزب يكون قد مارس ممارسة "إصلاحية" أي غير جذرية، وفي تلك الأوقات كانت كملة "الإصلاح" تُعد تهمة تفر منها الأحزاب.
لقد طالعت في أرشيف الصحافة الحزبية السرية في الستينات احتجاجات حزبية قد تبدو اليوم غريبة، فقد احتجت على إنشاء الجامعة الأردنية والبنك المركزي وعلى إشراك الطلاب بأعمال تطوعية، هذا فضلا عن الاحتجاج على كل السياسات الأخرى في الموضوع القومي والوطني.
كان هذا المنطق سائداً على المستوى العالمي كله، لأن الصراع العالمي كان يتخذ هيئة بسيطة بين قطبين، وكان كل طرف محلي يرى أنه متحالف أو محمي من قطب دولي، وبالفعل كان يكفي أحياناً، أن تقوم مجموعة بسيطة في بلد ما، بانقلاب لأيام أو ساعات، تحصل خلالها على اعتراف قطب دولي، فتعقد معه معاهدة فورية للدفاع المشترك، فتتحول السلطة الجديدة إلى أمر واقع.
هذه الصورة المبسطة المعروضة في السطور السابقة، سيطرت على أغلب عقود القرن العشرين، ولكنها في نهايته تعرضت لتبدل كبير وأصبحت أكثر تعقيداً، وفي بلدنا ترافق هذا التبدل العالمي مع الأزمة المحلية في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات التي قادت إلى الدخول فيما أسميناه "الانفتاح الديمقراطي".
لم تتمكن أحزابنا المعارضة من نيل الفرح الكامل لأنها لم تصنعه، وقبلت ضمنيا على الأقل، بصيغة "منحة" الديمقراطية وحرية العمل الحزبي، ثم قبلت بتبديل برامجها الثورية والجذرية، إلى برامج متواضعة شريكة منسجمة تعمل تحت القوانين النافذة.
لقد بلغ الأمر أن الأحزاب التي كانت تسمي نفسها "الحركة الوطنية" تخلت بعد الديمقراطية عن صفة "وطنية" وقبلت أن تسيطر على صفة "الوطنية" أطراف حزبية موالية أو قريبة من الحكم، واليوم عندما تذكر مفردات مثل "حزب وطني" أو "تيار وطني" فإنها تشير إلى أطراف أخرى خارج المعارضة.
هذا التبدل في حالة الأحزاب المعارضة لم ينعكس على أعضاء هذه الأحزاب، سواء منهم الأعضاء العاملون أو المحسوبون على هذه الأحزاب، الذين ورثوا الجذرية ولكن من دون أحزاب جذرية.
إنهم اليوم، وخاصة مع توفر منابر تعبير خاصة ومستقلة لكل فرد عبر التواصل الاجتماعي، يعيشون حالة سياسية فريدة، بل سحبوا معهم تيارا عريضا من المواطنين غير الحزبيين ولكن "الجذريين" الذين يظهرون معارضة مطلقة شاملة لكل التفاصيل، ولكنهم يقومون بذلك كأفراد من وراء شاشة الخلوي.
هل تستحق هذه الظاهرة النقاش؟ أقترح ذلك.