الطويسي: الاحتكارات الكبرى في الاقتصاد الرقمي تترك آثارا بالغة الخطورة على الثقافة

جانب من المحاضرة- (من المصدر)
جانب من المحاضرة- (من المصدر)
  قال وزير الثقافة الأسبق وأستاذ الصحافة والدراسات الإعلامية في معهد الدوحة للدراسات العليا الدكتور باسم الطويسي: "إن النظام البيئي الرقمي الذي بات يسيطر على نواحي الحياة الإنسانية كافة، أخذ يشكل سمات ثقافية بالغة الخطورة نتيجة لحالة السيطرة والتحكم والاحتكار التي يعاني منها الاقتصاد الرقمي العالمي فيما تخسر المجتمعات بناء إنسانية مستنيرة من الممكن أن توفر أسبابها شبكة الإنترنت نتيجة قدرتها على تمكين الناس من المعرفة".اضافة اعلان
وأضاف في محاضرة ألقاها في الجمعية الفلسفية الأردنية بعنوان "الهيمنة الجديدة: سمات ثقافية لعصر الاقتصاد الرقمي"، أن عالم الاقتصاد الرقمي يسير نحو إنهاء المفهوم التقليدي للموارد والتي دارت تاريخا حول الأرض والإنسان ثم الآلة والطاقة وغيرها، فالاقتصاد الجديد اقتصاد فقير بمنظور الاقتصاد التقليدي لأنه يعتمد على موارد جديدة ومختلفة عما عرفناه في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وأوضح، أن العالم الرقمي والبيانات وفي الأصل أدوات محايدة؛ وتبدأ الخطورة كلما تم احتكار هذا العالم والتحكم به، وبالتالي فالقوة الرقمية قوة مبدعة ومنشئة وقوة مدمرة أيضا، كما كان يحدث في التاريخ، فإن الأدوات الاتصالية تمر في مراحل اختطاف وانتكاس لصالح مراكز إنتاج الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية، لقد بنيت آمال كبيرة على التحول الرقمي في بدايات القرن، ومن الآمال بأن يفتح هذا التحول الباب واسعا أمام ما يسمى "حكمة الجموع"، التي ستوفر لأول مرة أمام البشرية منصات لإيجاد الحلول والأفكار الابتكارية من ملايين من جموع البشر، وكما هو الحال في فكرة "دمقرطة الحياة الاجتماعية"، وإتاحة المعرفة أمام الجميع من خلال إتاحة الوصول السهل للمعرفة والمعلومات أي تجزئة القوة في المجتمع بحيث يصبح أحد الناس لهم حصة في هذه القوة؛ لأنهم يعرفون.
لكن مسار التحول الرقمي الذي شهده العالم خلال العقدين الماضيين كذب هذه التوقعات او أفشل هذه الفرص؛ حينما اتجه العالم إلى بناء احتكارات ضخمة تسيطر على الصناعة الرقمية، وحول شبكة الإنترنت إلى شبكة مركزية يسهل التحكم بها، أن البيانات الضخمة ليست مجرد قوة اقتصادية مضافة بفعل الاقتصاد الرقمي، بل قوة جديدة للهيمنة والسيطرة والتحكم والمراقبة متاحة أمام الشركات الكبرى والحكومات.
قارن المحاضر بين قوة الشركات الاحتكارية الخمسة الكبرى التي شكلت النظام الرأسمالي في بداياته منذ القرن السادس عشر، (هي شركة الهند الشرقية البريطانية، شركة الهند الشرقية الهولندية، شركة المسيسبي (فرنسا)، وبنك إنجلترا، وشركة هدسون باي)، وسيطرت على الاقتصاد العالمي وقامت على الاحتكار والهيمنة، وبين شركات التكنولوجيا الرقمية المعاصرة الخمسة "جوجل، أبل، ميتا فيرس، امازون، مايكروسفت"، التي حققت ثروات خيالية نتيجة الاحتكارات العملاقة، ما يفسر كيف تعمل الهيمنة الاحتكارية في إعادة إنتاج نفسها.
توقف المحاضر أمام محركات الاقتصاد الرقمي المعاصر تحديدا في الصناعات الثقافية والإعلامية، وأبرزها البيانات الضخمة باعتبارها المورد الأقل ثمنا إلى جانب كونه موردا لا ينضب، فتداول البيانات غير لأول مرة لعبة المستهلك والمنتج التقليدية فالمستهلك، أصبح يتحول بعلمه أو من دون علمه إلى منتج للبيانات التي يتم بيعها. في عالم التحكم بالبيانات الضخمة، يتحول الأفراد إلى سلع بإرادتهم يتم التحكم بهم آليا أو رقميا. أما المحرك الثاني، فهو هندسة النظام البيئي الرقمي: البرامج والخوارزميات والأجهزة والاتصال بالشبكة. من خلال التحكم في النظام البيئي الرقمي، تتحكم شركات التكنولوجيا الكبرى في سلوك الأفراد والجماعات، مما يمنحها سلطة مباشرة على المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية للحياة، ومن خلال هذا التحكم تصبح المراقبة العامة سهلة وطيعة وانتهاك خصوصية الأفراد متاحا.
أما المحرك الثالث، فهو انتقال أسلوب الهيمنة والسيطرة من الإكراه إلى الرغبة، حيث تعمل الواجهة الإعلامية للعصر الرقمي على جعل الهيمنة أمرا مرغوبا فيه يذهب إليه الأفراد والجماهير طواعية برغبتهم، بل يجدوا فيه الكثير من المتعة، إن الآلية الجديدة للهيمنة تعمل من الأسفل إلى الأعلى وليس من الأعلى إلى الأسفل كما كانت عبر التاريخ.
وعرض الدكتور الطويسي، أبرز السمات الثقافية التي شكلها العصر الرقمي في أنماط الحياة والسلوك البشري، وأولها إفلاس الثقة والرأسمال الاجتماعي كما عرف في القرن العشرين، موضحا أن المال بنى أكبر نظام ثقة شهده التاريخ الإنساني، لا يمكن تصور التحولات الكبرى التي شهدها العالم منذ القرن التاسع عشر من دون فهم الثقة العامة التي لم تكن حجر الأساس للنظام الاقتصادي الرأسمالي وحسب، بل العامود الذي ترتكز عليه الديمقراطية والحريات وأشكال التنظيم المتعددة، هذه الممارسة في طريقها إلى الزوال في المقابل ثمة نمط جديد من الثقة أكثر صلابة وأقل إنسانية ينمو في عالم القرن الحادي والعشرين.
وأوضح مظاهر عديدة وواسعة لتراجع الثقة العامة تمتد من الدول الديمقراطية إلى الدول الشمولية؛ الركود الاقتصادي والأزمات المالية المتتالية، فساد الانتخابات، التدخل الأجنبي في الانتخابات، صعود الشعبوية السياسية بصور مخجلة، السلوك السيئ والفساد من قبل المسؤولين المنتخبين، محاربة الصحافة الإخبارية المحترفة، وانتشار الأخبار الكاذبة والتضليل، ثمة شبكات من التفسخ والتنافر والشك والأكاذيب تمتد فوق جسد الشبكات التقليدية التي شيدت منذ عصر رأس المال. لكن ثمة شبكات جديدة تنمو لا ينقصها الاضطراب والفوضى. حيث أتثبت دراسات استطلاعات الرأي كيف تراجعت الثقة في الحكومات في كل أنحاء العالم خلال آخر عشرين عاما، وكيف تراجعت الثقة في المؤسسات المالية التقليدية والأحزاب والبرلمانات هذه الثقة هي الثقة المؤسسية أو العامودية التي سادت منذ القرن التاسع عشر تتراجع وتضعف في المقابل تنمو ثقة افقية جديدة تبدو أمثلتها في أنظمة الدفع الإلكتروني المتقدمة والتجارة الإلكترونية والثقة في شركات مثل "أوبر"، أو شركات السياحة والفنادق الرقمية.