الإسرائيليون لا يستهدفون (الأونروا)

1710071088450131700
جنود إسرائيليون أمام مبنى لوكالة (الأونروا) في مدينة غزة، 8 شباط (فبراير) 2024 – (أرشيفية)

أيمن الصياد* - (أوريان 21) 19 شباط (فبراير) 2024

من خلال توجيه اتهاماتها إلى (الأونروا) -والتي اتضح أنها خالية من أي مصداقية- تحاول إسرائيل "شطب" قضية اللاجئين التي -من الناحية القانونية- لم يتم التصرف فيها بعد، وذلك من أجل تكريس أكذوبة "أرضٌ بلا شعب، لشعب بلا أرض". هكذا يحاول الإسرائيليون أن ينسى العالم كله كيف نشأت دولتهم.

*   *   *
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي (الذي يحكم للمرة السادسة) بنيامين نتنياهو واضحاً تماماً حين قال حرفيا في اجتماعه مع وفد من السفراء لدى الأمم المتحدة صباح يوم الأربعاء 31 كانون الثاني (يناير) 2024، إن مهمة (الأونروا) يجب أن تنتهي... هذه المنظمة لا تفعل سوى أنها "تُبقي قضية اللاجئين الفلسطينيين حية" وقد حان الوقت لكي تتفهم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أن هذا لا بد أن ينتهي.
كما كان لافتًا ومفجعًا بالمقدار نفسه أن تسارع دول غربية عدّة -تصدرتها الولايات المتحدة بطبيعة الحال- باتخاذ ما من شأنه مساعدة إسرائيل/ نتنياهو في تحقيق هدفه البعيد، المتمثل في إلغاء الوكالة الدولية لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، أو بالأحرى إلغاء المعنى القانوني لوجودها.

اضافة اعلان


(الأونروا) أو الترسيخ القانوني لحق العودة

 


فضلاً عن محاولة إثارة الغبار حول نزاهة تقارير المنظمة الدولية وشقيقاتها عشية قرار "محكمة العدل الدولية" في 26 كانون الثاني (يناير) الذي استند إلى حد كبير إلى تلك التقارير، فليس أوضح من تصريح نتنياهو العلني كشفًا وفضحًا لحقيقة الهدف "الاستراتيجي" للحملة الإسرائيلية الشرسة والمفاجئة على "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بزعم مشاركة 12 من موظفيها في هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أو في التعبير عن الابتهاج به. لاحِظ من فضلك أنهم يتحدثون عن اثني عشر (فردًا) على الأكثر من بين أكثر من ثلاثة عشر ألفًا هم مجموع العاملين في المنظمة الدولية.


لا يريد نتنياهو أن "تبقي (الوكالة) قضية اللاجئين الفلسطينيين حية"، كما قال حرفيا في حديثه الصريح لدبلوماسيين، وهو في هذا ليس أكثر من معبر عن الموقف الإسرائيلي القديم والثابت، والذي يدرك ما تمثله مشكلة اللاجئين، وما يرتبط بها من "حق العودة" من تهديد يتجذر في تفاصيل التاريخ وتضاريس الجغرافيا.

 

فمجرد التذكير بقضية لاجئي 1948، من شأنه تاريخيا أن يقوّض الأساس الذي قامت عليه إسرائيل (الدولة): "أرضٌ بلا شعب، لشعب بلا أرض". أما ما يرتبط بها من مناقشة لمسألة "حق العودة"، مهما كانت تفاصيل الحلول التي سبق اقتراحها إعلاميًا في إطار "اتفاقات أوسلو" الموؤودة، فمن شأنه قطعا أن يُحدث جغرافيا وديموغرافيا ما يغير كل المعادلات والتضاريس.


بمحو قضية اللاجئين الفلسطينيين، يريد الصهاينة تكريس أكذوبة "أرضٌ بلا شعب، لشعب بلا أرض". وبمحاولتهم إلغاء (الأونروا)، يحاول الإسرائيليون أن ينسى العالم كله كيف نشأت دولتهم بتطهير عرقي ممنهج ومنظم للفلسطينيين أصحاب الأرض، على الرغم من أنهم هم أنفسهم لم ينسوا ذلك.


بين أوراقي دراسة صادرة في العام 1994 عن مركز للدراسات الاستراتيجية بجامعة تل أبيب، أعدّها شلومو غازيت، الذي شغل لفترة منصب رئيس الاستخبارات العسكرية، كما عمل منسقًا للأنشطة في الأراضي المحتلة. الورقة البحثية التي كانت ضمن مجموعة أوراق ذات صلة أُعدت استباقًا لما (قد يتم) من مفاوضات قرّرتها أوسلو حول الحل الدائم، وجرى تخصيصها حصرًا لـ"مشكلة اللاجئين الفلسطينيين".


كانت قضية اللاجئين رسميا ضمن قضايا الحل النهائي التي كان من المفترض (حسب مقررات أوسلو) أن يبدأ التفاوض حولها في موعد أقصاه أيار (مايو) 1996، وهو الأمر الذي نجحت المراوغات الإسرائيلية المعهودة في تلافيه على مدى أكثر من خمسة عقود -أي منذ 1948 (هل عرفتم لِمَ لم يتوقف نتنياهو عن القول بأن "أوسلو قد انتهت")؟


تحضيرًا لما قد يكون (لكنه لم يكن أبدًا) من مفاوضات أوسلو حول الحل الدائم، ينبه شلومو غازيت المفاوضَ الإسرائيلي المحتمل إلى أن الخطوة الأولى لا بد أن تشمل "إلغاء (الأونروا)"، ونقل المسؤولية عن المخيمات إلى الدول المضيفة.

 

والهدف من ذلك هو إلغاء "المكانة القانونية/ الرسمية" الخاصة باللاجئ، والذي يكتسب الفلسطينيون بموجبه "حق العودة"، بمقتضى قرار "الجمعية العامة للأمم المتحدة" رقم 194 (11 كانون الأول/ ديسمبر 1948)، الذي نص في بنده الحادي عشر على "وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذي يقررون عدم العود إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، وفقاً لمبادئ القانون الدولي".

 

بالمناسبة، ولمن يهمه الأمر -إذا كان هناك من يهمه الأمر- ما يزال قرار الجمعية العامة من الناحية القانونية الصرفة ساريًا، ولم يتخذ النظام الدولي أي قرار لاحق يفيد بإلغائه أو تعديله.


حتى وإن لم يكن هناك في حكوماتنا (العربية) من يهمه الأمر، أو بذل الجهد اللازم لتفعيل (أو على الأقل التذكير) بالقرارات الدولية، فإن الحاصل هو أن نتنياهو، مثل أسلافه، لم ينس أو يغفل عن حقيقة أن (الأونروا) بحكم وضعها القانوني هي التي ترسخ مكانة اللاجئين القانونية من خلال منح بطاقة اللاجئ، وإنشاء مخيمات اللاجئين كوحدات قائمة خارج مسؤولية الدول الموجودة فيها، ومتميزة عن بيئتها الطبيعية، بكل ما يعنيه ذلك من تبعات قانونية.


موقف إسرائيلي تاريخي ثابت

 


كما فعل سلفه، نفتالي بينيت، الذي قال كلامًا مشابهًا في حوار له مع قناة (سي. إن. إن) في الثاني من شباط (فبراير) 2023، لم يكن موقف بنيامين نتنياهو من المنظمة الدولية، والذي اتضح جليا في تصريحاته الأخيرة، غير ترديد لمواقف إسرائيلية ثابتة ومتوارثة.

 

ويتذكر متابعو القضية ما كان من اقتراح أميركي في وقت مبكر (هو العام 1949) يقضي بأن تسمح إسرائيل بعودة ثلث العدد الإجمالي للاجئين الفلسطينيين "على أن تتحمل الحكومة الأميركية نفقات إعادة توطين باقي اللاجئين في الدول العربية المجاورة".

 

لكن ديفيد بن غوريون، مؤسّس دولة إسرائيل ورئيس حكومتها الأول، سارع إلى رفض الاقتراح الأميركي حتى قبل أن تبت الدول العربية المعنية بأمره.

 

ولا غرابة في الموقف الإسرائيلي الممتد من بن غوريون وحتى نتنياهو، حيث ينطوي اعتراف إسرائيل بمسألة اللاجئين على إقرار بمسؤوليتها عن نشوء المشكلة، فضلاً عمّا يتفرع عنها قانوناً من "حق العودة". ولا غرابة بالتالي في موقف نتنياهو من (الأونروا) التي تمثل التجسيد القانوني لهذه المسألة.


كان من المفترض وقت إنشاء (الأونروا) أن تكون هذه المنظمة "مؤقتة" بحكم قرارَي إنشائها من الجمعية العامة (212 في تشرين الثاني (نوفمبر) 1948، و302 في كانون الأول (ديسمبر) من العام 1949)، وكان من المقرر انتهاء عملها، أو حتى وجودها ذاته، حين يعود اللاجئون الفلسطينيون الذين وُجدت لرعايتهم، إلى بيوتهم ومزارعهم التي استولت عليها ميليشيات الصهاينة في 1948.

 

وهو الأمر الذي بدلاً من أن يتم فتنتهي مشكلة اللاجئين، وتنتفي بالتالي الحاجة إلى المنظمة التي أنشئت لرعايتهم، زاد عددهم باستيلاء إسرائيل (الدولة) على مزيد من الأراضي في حرب العام 1967.

 

ثم كان أن جاء نتنياهو، الصهيوني المراوغ، ليحاول إنهاء قضية اللاجئين أيضًا -لا بعودتهم إلى بيوتهم، كما هو الحل الطبيعي لمثل هذه المسألة- وإنما بالقضاء على المنظمة الأممية التي "تُذكِّر بوجودهم". أو كما قال نصاً أمام العالم كله من أن هذه المنظمة لا تفعل غير أنها "تبقي قضية اللاجئين الفلسطينيين حية" وقد آن لها أن تنتهي.


الخلاصة هي أن للحملة الإسرائيلية على (الأونروا) أهداف عدة، بينها هدفان بارزان:


• الهدف الآني -وأتفق بشأنه مع آفي شلايم، البريطاني الإسرائيلي وأستاذ التاريخ المرموق- يرتبط بقرار محكمة العدل الدولية، واستباقًا لمداولاتها التالية، والحملة الإسرائيلية هنا تعمد على تشويه المنظمة، وإرهاب مسؤوليها، ودفعهم إلى السكوت والصمت عن الانتهاكات الإسرائيلية التي لم تتوقف، فضلا عن النيل من مصداقية تقاريرها وبياناتها التي سبق إعلانها واستندت إليها المحكمة في قرارها (المبدئي).

 

وعلى الأرجح، مثلما يفعل عادة محامو الباطل، حين تعوزهم الحجة، ستكون تلك الورقة "المزيفة" هي الأهم، على الأقل دعائيًا بين الدفوع التي سيتقدم بها الدفاع الإسرائيلي حين تعود المحكمة إلى الانعقاد.


• أما الهدف الاستراتيجي والأبعد أثرا، فيتلخص في محاولة جديدة قديمة لشطب قضية اللاجئين نهائيا، والتي ما تزال من زاوية القانون الدولي قضية حية، ولم يتم التصرف فيها بعد.


وإذن، على الرغم من أن نتنياهو يريدنا أن ننسى قضية اللاجئين بكل أبعادها القانونية والإنسانية، إلا أن موقفه من (الأونروا) وتصريحه الواضح بشأنها يكشف لنا بالوضوح ذاته أنه، كغيره من حاملي لواء الصهيونية كفكرة واستراتيجية للتطبيق، لم ينس ما جاء في أوراق تأسيس المنظمة الدولية من تعريف اللاجئ الفلسطيني بأنه: "الشخص الذي كان يقيم بصورة اعتيادية في أرض إسرائيل (فلسطين الانتدابية) خلال فترة لا تقل عن عامين، قبل نزاع العام 1948، وفقد كلاً من منزله ومصدر رزقه، ولجأ إلى إحدى الدول التي يقدم المعونة فيها جهاز تابع لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين".


وإذا عرفنا أن عدد هؤلاء حسب سجلات (الأونروا) يتجاوز الستة ملايين، فهل هناك تهديد "ديموغرافي" للصهيونية -الفكرة، والاستراتيجية (والدولة)- أكثر من أن يأتي أحدهم يومًا ما ليفتح الملف، ويأخذ القضية إلى حيث يمكن للقانون الدولي أن يعمل ويكون فاعلاً؟

*أيمن الصياد: كاتب صحفي، ومستشار "سابق" لرئيس الجمهورية في مصر (2012). تولى رئاسة تحرير دورية "وجهات نظر"، بعد أن أدار تحريرها منذ العام 2000.

 

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

الأونروا: إسرائيل أجبرت بعض موظفينا على اعترافات كاذبة