من "الندرة" إلى "التلوث".. ملفات توسع نطاق تحديات الأمن المائي

1708702625536410600
مياه تتدفق من أحد الأنابيب - (أرشيفية)

تغيير في النهج وتعديل في الممارسات وإجراءات سريعة يجب أن تكون عنوان السنوات المقبلة في قطاع المياه، لمواجهة مخاطر الندرة وتزايد احتمالات التلوث.

اضافة اعلان


الأردن إحدى أفقر مناطق العالم مائيا، والمخاطر العالمية في هذا القطاع لها تبعات أكبر على المملكة، ويجب أن تؤخذ على محمل أكثر جدية من باقي تلك المناطق، بحسب خبراء في القطاع.


تقارير عالمية، أوضحت مرارا وتكرارا مخاطر ندرة المياه سابقا، لكننا اليوم أمام تقرير يحذر وبشكل جدي من خطر مواجهة ثلاثة مليارات شخص ندرة المياه في العام 2050، نتيجة “التلوث”.


وبينما أكد التقرير، الذي نشرته مجلة “نيتشر” العلمية، وحصلت “الغد” على نسخة منه، أن “النيتروجين مسؤول عن نحو 90 % من التلوث في إمدادات المياه في جميع أنحاء العالم”، شدد خبراء في قطاع المياه على ضرورة اتخاذ الحكومة والمؤسسات المعنية، إجراءات عاجلة للمساعدة على معالجة أي تلوث للمياه، في ضوء تحذيرات الباحثين.


وفي الوقت الذي دعا فيه التقرير لأهمية الاستفادة من هذه الدراسة من خلال المساهمة في استراتيجيات إدارة المياه الاستباقية للأحواض الفرعية، حيث من المحتمل أن تكون ندرة المياه مرتفعة في المستقبل، أوصى المختصون، في تصريحات لـ”الغد”، بأهمية تغيير الممارسات الزراعية، والتوسع في تنفيذ مشاريع ومحطات الصرف الصحي الذي سيسهم إيجابا في التقليل من مخاطر النيتروجين، خاصة في المناطق الجغرافية والقرى الموجودة حول مصادر المياه الجوفية والسدود المختلفة.


التقرير الحديث، الذي تمحور حول “دراسة جديدة تقيم تأثير التلوث على ندرة المياه في المستقبل”، أظهر أن تقييما عالميا لكمية المياه النظيفة في المستقبل، وفي ما يتجاوز 10 آلاف حوض نهري في جميع أنحاء العالم، ستتعرض للتلوث بالنيتروجين الذي يؤثر، بدوره، على ندرة المياه في أكثر من ألفي حوض فرعي في جميع أنحاء العالم، مع زيادة السيناريوهات المتوقعة إلى 3061 حوضا فرعيا بحلول العام 2050، وهو ما جدد مخاوف الخبراء من مواجهته، ما نجم عنه دعوات نحو ضرورة التحول إلى زيادة تغطية خدمات الصرف الصحي العامة وتقليل الاعتماد على الحفر الامتصاصية، مشيرة إلى أهمية تلك الخطوة لتقليل مستوى النترات في مصادر المياه.


وبدورها، حذرت الخبيرة الأردنية في دبلوماسية المياه ميسون الزعبي، من مخاطر أي تدهور في نوعية المياه، مشيرة إلى انعكاسه على توقف النمو الاقتصادي، وتدهور الظروف الصحية، وتراجع إنتاج الغذاء، وتفاقم الفقر.


وأكدت الزعبي أهمية اتخاذ الحكومة والمؤسسات المعنية، إجراءات عاجلة للمساعدة على معالجة أي تلوث للمياه، وصولا لتحقيق معدلات نمو أسرع بطريقة عادلة ومستدامة بيئيا، وذلك في ضوء تحذيرات الباحثين من أن “النيتروجين مسؤول عن نحو 90 % من التلوث في إمدادات المياه في جميع أنحاء العالم”.


وأضافت أن التلوث النيتروجيني يؤدي إلى تكاثر الطحالب الضارة في المياه السطحية، والتي تنتج السموم التي تلوث مياه الشرب وتسبب مشاكل صحية للإنسان، مبينة أن الملوثات كالنيتروجين، قادرة أيضا على إلحاق الضرر بالغابات والنظم البيئية للبحيرات عن طريق تحمض التربة والمياه السطحية، مما يؤثر على نمو الغابات ويقتل الأسماك والكائنات الحية الأخرى.


وتابعت “تتعرض المياه الجوفية لنسبة عالية من التلوث بالنترات من خلال الزراعة، لأن الاستخدام المفرط للأسمدة في الحقول يجعل التربة غير قادرة على الاستفادة من هذه الكمية من المواد”، مشيرة إلى أنه “كلما زاد عدد الأراضي الزراعية في منطقة معينة، ارتفعت مستويات النترات فيها، وكانت المياه الجوفية أكثر تلوثا”.


واستهجنت الزعبي “التغاضي عن موضوع التلوث بالنيتروجين وغياب الاهتمام وأي اتفاق دولي أو نظام عالمي ينسق الجهود لمواجهته”، لا سيما في ظل اعتباره من قبل باحثين “إحدى المشاكل الأربع الخطيرة التي تغلب عليها كوكب الأرض، والتي قد تؤدي لتغير بيئي مفاجئ ولا رجعة فيه”.


واعتبرت أن الزراعة مسؤولة عن ثلثي التلوث العالمي بالنيتروجين، فيما عزت الباقي إلى مياه الصرف الصحي المنزلية، ونفايات الماشية، وحرق الوقود الأحفوري.


واقترحت إنشاء أنواع من المحاصيل يمكنها تثبيت النيتروجين من الهواء بمفردها، كخيار أفضل لمواجهة التلوث النيتروجيني وضمان الأمن الغذائي في الوقت ذاته، إذ يجري حاليا اختبار أساليب عدة لاستخدام الأسمدة بدقة في المكان والزمان المناسبين، كزراعة حبيبات الأسمدة منخفضة التكلفة بالقرب من جذور النباتات، وهي طريقة يتم اختبارها في بنجلاديش، على الرغم من حاجتها العالية للعمالة.


وتشمل التكنولوجيا المتقدمة اليوم ما أصبح يعرف باسم “الزراعة الدقيقة”، وهي الممارسة التي تنطوي على حسابات متقدمة تعمل على تحليل صحة النبات، وظروف التربة، والأحوال الجوية المحلية من أجل توفير برنامج مخصص لكمية وتوقيت استخدام الأسمدة، وفق الزعبي.


وأشارت إلى أن تصحيح النقص في استخدام الأسمدة “لا يشكل سوى حل جزئي لمشكلة النيتروجين”، موصية بأهمية عمل المزارعين والمجتمعات المحلية على تحسين امتصاص المحاصيل للعناصر الغذائية المضافة، ومعالجة مخلفات الأسمدة العضوية الحيوانية بشكل مناسب، وأيضا معالجة مياه الصرف الصحي، والحد من هدر الطعام، وتغيير نظامنا الغذائي.


وخلصت إلى أهمية اتخاذ معالجة فورية للاستخدام غير الرشيد للأسمدة النيتروجينية، لا سيما وأنها أهم مصدر للنيتروجين الزائد في البيئة، مؤكدة ضرورة حماية مناطق الحواجز النباتية الطبيعية التي يمكن أن تمنع جريان النيتروجين قبل وصوله إلى المسطحات المائية.


وذلك إلى جانب أهمية إجراء المزيد من الأبحاث لتحديد أنواع النباتات الأفضل زراعتها في المناطق الساحلية لامتصاص النيتروجين الزائد، والبحث عن طرق أخرى لحل أو تجنب مشكلة النيتروجين الزائد، والتي تمتد إلى النظم البيئية المائية، فضلا عن الزراعة المستدامة التي تعد إحدى الأدوات الرئيسية لمعالجة مشاكل الثلوث النيتروجيني والحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، وذلك عبر تبني ممارسات زراعية مستدامة تحافظ على التنوع البيولوجي وتعزز الاستدامة البيئية والاقتصادية.


من جانبه، دعا الأمين العام الأسبق لسلطة المياه إياد الدحيات، إلى أهمية تغيير الممارسات الزراعية، مشيرا إلى مساهمة الاستفادة من السماد بشكل علمي في المكان والزمان المناسبين في حل المشكلة، بالإضافة إلى التوسع في تنفيذ مشاريع ومحطات الصرف الصحي، الذي سيسهم إيجابا في التقليل من مخاطر النيتروجين، خاصة في المناطق الجغرافية والقرى الموجودة حول مصادر المياه الجوفية والسدود المختلفة.


وأشار الدحيات إلى تجربة إيجابية سابقة أجرتها سلطة المياه في إعداد خطط مأمونية المياه للأنشطة والممارسات الصناعية والزراعية وتوجيه مشاريع الصرف الصحي حول مصادر المياه والسدود، ومنها سد الموجب وسد كفرنجة والآبار الجوفية.


وأوضح الأمين العام الأسبق لـ”المياه”، أن القطاع الزراعي بشكل عام من القطاعات الرئيسية التي تؤدي لزيادة تلوث النيتروجين في البيئة المحيطة من خلال المركبات الكيميائية التي تحتوي هذا العنصر ويتم إنتاجها صناعيا على شكل أسمدة.


ولفت إلى مساهمة مياه الصرف الصحي المنزلية غير المعالجة في ذلك التلوث، حيث يعمل النيتروجين على تلوث المياه الجوفية بالنترات عن طريق الزراعة ومياه الصرف الصحي الذي قد يعرض حياة الإنسان للخطر وتصبح بسببه المياه الجوفية بحاجة لمعالجة مكلفة، أو يؤدي إلى تشكل الطحالب والعوالق المائية في المسطحات المائية والسدود ويقضي على الأنواع الحية فيها بسبب نضوب الأكسجين من خلال هذه الطحالب.


من جانبها، رأت الخبيرة الإقليمية في قطاع المياه سوزان الكيلاني، أن أي تلوث للمياه بالنترات يمكن أن يمثل مشكلة تحد من استخدام مصادر المياه، محذرة من إمكانية أن تشكل خطرا على صحة شرائح معينة من المواطنين وتحديا بيئيا.


وقالت الكيلاني، إن مصدر النترات في مصادر المياه بالأردن يأتي بالدرجة الأولى من انتشار الحفر الامتصاصية غير المصمتة، وذلك في ظل وجود نحو 40 % من السكان “غير موصولين على شبكة الصرف الصحي العامة”، وبالدرجة الثانية تأتي نتيجة تسرب مياه الصرف الصحي من أنظمة الصرف الصحي؛ إما بسبب قدمها أو بسبب الممارسات الخاطئة في كثير من الأحيان.


وأرجعت الخبيرة الإقليمية في “المياه” ارتفاع تركيز النترات في المياه بشكل ملحوظ، خاصة بالمناطق الزراعية؛ إلى “الاستخدام المفرط للأسمدة الزراعية”، مدللة على ذلك بـ”احتواء معظم مياه الينابيع وآبار المياه الجوفية الضحلة نسبا لا يستهان بها من النترات”. 


وأوصت الكيلاني بضرورة التحول إلى زيادة تغطية خدمات الصرف الصحي العامة وتقليل الاعتماد على الحفر الامتصاصية، مشيرة إلى أهمية تلك الخطوة لتقليل مستوى النترات في مصادر المياه.


وقالت “إن الصيانة الدورية لأنظمة الصرف الصحي العامة وتوعية المواطنين تعد من الأهمية بمكان، ويمكن تحسين ممارسات استخدام الأسمدة الزراعية وتشجيع المزارعين على استخدامها بشكل أكثر فعالية”.


ولفتت الكيلاني إلى أهمية استمرارية وتوسيع نطاق برامج جرى تنفيذها كحالة “نبع القيروان” في جرش، وتعد نموذجا للتدابير التي يمكن اتخاذها في مناطق أخرى لتحسين جودة المياه.


وأوضحت أن حلولا عديدة أثبتت نجاحها في الأردن، ففي العام 2007-2010، تم تطبيق إجراءات حماية المسقط المائي لنبع القيروان، بهدف التعرف على أهم مسببات ارتفاع النترات به، حيث كان تركيزه لسنوات عدة بحدود 85 ملغم/لتر، وتبين بعد التقصي الميداني والمشاهدات الميدانية أن هناك ما يتجاوز 40 مصدرا محتملا للنترات.


وبعد إعداد خرائط الحساسية للمنطقة، تبين أن السبب الأول يعود للحفر الامتصاصية التي تتسرب مياهها عبر تشققات الصخور لتصل الى النبع، فيما يأتي فيضان مناهل الصرف الصحي المتكررة بالمرتبة الثانية، أما المرتبة الثالثة فكانت بسبب استخدام المزارعين المفرط وغير المدروس للأسمدة. 


وحينها، تم وضع الحلول الهندسية والتوعوية، حيث تم أولا شبك المنازل والمنشآت في منطقة الحساسية العالية والأكثر تأثيرا على النبع على شبكة الصرف الصحي العامة، وتم تفريغ وردم الحفر الامتصاصية وزراعة شجرة كينا على كل حفرة امتصاصية تم ردمها. 


كما جرى إعداد “سيرة ذاتية” لكل منهل للصرف الصحي في منطقة الحساسية العالية ورصد تكرار فيضان المناهل في المنطقة وتمت معالجة فيضان المناهل ببرامج تنظيف مبرمج للمناهل الأكثر فيضانا Jetting، وبرامج توعية للمواطنين لعدم إلقاء الفضلات في المناهل، مثل ما ينتج عن نتافات الدجاج والتي كانت سببا رئيسا للإغلاق المتكرر لأنظمة الصرف الصحي في المنطقة، وتم ثالثا التوجه الى المزارعين ببرامج تثقيفية وتوعوية لاحتساب كمية السماد الذي تحتاجه الرقعة الزراعية.


وكانت نتيجة تطبيق هذه الحزمة من الإجراءات، أن انخفض تركيز النترات في النبع إلى ما دون متطلبات المواصفة الأردنية؛ أي من 85 ملغم/لتر الى ما دون 30 ملغم/لتر في فترة وجيزة.


أما باقي ينابيع المملكة، فتتم معالجة المياه الخام لتنتج محطات المعالجة مياها مطابقة للمواصفات، إنما يترتب على هذا كلف معالجة مستمرة نكون قد أحسنا إذا وفرناها بتطبيق المنهجية التي اتبعت لنبع القيروان.


وعودة لتفاصيل التقرير العلمي، فإن الدراسة ركزت على ندرة المياه في المستقبل، على أساس تلوث النيتروجين في الأنهار في ظل السيناريوهات المناخية والاجتماعية والاقتصادية، بما فيها تغير استخدام الأراضي، والري، وبناء السدود وكيف تؤثر هذه بشكل مباشر على الدورة الهيدرولوجية عن طريق تغيير توقيت وحجم تصريف المياه.

 

اقرأ المزيد : 

التحديث الاقتصادي: تحقيق الأمن المائي يرتطم بتحدي ضعف الإدارة