عن القرارات "غير الشعبية"

بعد أيام قليلة من تصريحاته لـ"الغد"، اضطر وزير المالية، أميّه طوقان، أن يقدّم توضيحاً بأنّ مقارنته مع الحالة اليونانية قد أسيء تفسيرها، بعد أن رفعت المقابلة منسوب القلق الشعبي حول حالة الاقتصاد، وقُدّرت نتائجها بعكس المطلوب منها!اضافة اعلان
الوزير كان في تصريحاته، من خلال شرح خطورة الحالة المالية، يهدف إلى تحضير الرأي العام لقرارات غير شعبية تنوي الحكومة اتخاذها فيما يتعلّق بإعادة ربط سعر المحروقات بالسوق العالمية، وبأسعار الخدمات الأساسية. إلاّ أنّ التصريحات أقلقت المستثمرين والمدّخرين، فيما يبدو "المزاج الشعبي" رافضاً لمثل هذه القرارات بصورة مبدئية! من الطبيعي في مثل هذه الظروف السياسية أن يكون المزاج الشعبي رافضاً تجاه هذه القرارات، فاللغة المتداولة في الشارع اليوم تربط أي قرارات بقضايا كبرى؛ أولوية مواجهة الفساد واستعادة أمواله، ومعالجة التهرب الضريبي، والعدالة الضريبية، أي انّها تضع هذه القرارات ضمن "حزمة" إعادة هيكلة السياسات الاقتصادية بأسرها، وليس الاكتفاء بمحاولة حل العجز بالطريقة الأكثر سهولة "جيب المواطن". هذه معضلة حقيقية. فلو كانت مثل هذه القرارات، "غير الشعبية" بالتأكيد، في ظروف اقتصادية وسياسية طبيعية، لما أخذت مثل هذا الوقت الكبير من التردد وتقديم رجل وتأخير الأخرى من قبل حكومات متعاقبة.
إذا عدنا إلى حكومة سمير الرفاعي، فقد أدّى التلميح فقط بقرارات صعبة، إلى موجة نقد غاضبة، وتراجع عن القرار، فيما فشلت اللجنة التي شكّلتها حكومة معروف البخيت من اقتصاديين وإعلاميين، برئاسة هاني الملقي، في تقديم هذه المخرجات، وانسحب حينها عدد من الزملاء الإعلاميين. وبرغم إصرار الفريق الاقتصادي حينها، وتحديد موعد لرفع الأسعار، إلاّ أنّ البخيت تراجع في اللحظة الأخيرة، وقرّر عدم الرفع.
المفارقة (الآن) أنّ الشكوى والقلق لم يعودا في دائرة الطبقات الفقيرة والوسطى الأكثر تضرّراً، بل أصبحا ديدن المستثمرين ورجال الأعمال والاقتصاديين، إذ يتحدّث عدد كبير منهم عن نتائج سلبية كبيرة على استثماراتهم جرّاء تغيير سعر الكهرباء وحدها، وهو ما سينعكس على أسعار سلع أخرى وخدمات مختلفة.
في ظل هذه الأجواء، على الحكومة أن تفكّر جيّداً عندما تريد اتخاذ مثل هذه القرارات. والمسألة ليست مرتبطة بالتسويق الإعلامي، كما يعتقد مسؤولون في القرار؛ فالإعلام ليس هو من يصنع المزاج الشعبي، بقدر ما يتأثر به أو يحاول توضيحه بأمانة. إنّما التحدّي هو في الوصول إلى تصوّر عام لدى خبراء اقتصاديين ومستثمرين وممثلين عن القوى السياسية الرئيسة حول كيفية مواجهة الأزمة الحالية وعبورها بأمان. في أغلب الدول التي تمرّ بمثل هذه المنعطفات الاقتصادية والمالية، تشترك الأحزاب الرئيسة في البلاد، في الحكم والمعارضة معاً، في تقديم هذه "الوجبة غير الشعبية"، إذ يصبح الخيار بين الاقتصاد الوطني والصالح العام وبين تضحية المواطنين ومصالحهم الشخصية. لدينا لا يوجد تداول للسلطة، والانتظار إلى ذلك الوقت سيضر بالحالة الاقتصادية. وهنالك استحقاقات متعددة. فالحل هو الاستعانة اليوم بمجموعة من الاقتصاديين المرموقين والخبراء، مع قيادات حزبية وشعبية، ليجتمعوا ويتباحثوا ويقدّموا لنا معاً حزمة متكاملة من السياسات والقرارات الاقتصادية التي تستجيب في الوقت نفسه لاستحقاقات الاقتصاد الوطني وللمطالب الشرعية للفئة العريضة من المواطنين.
زبدة الموضوع؛ لا يمكن اليوم تمرير قرارات صعبة اقتصادياً بدون حزمة متكاملة تعالج القضايا الشعبية المطروحة، وتعيد هيكلة الحالة الاقتصادية، وتضع آليات واضحة للتأكد من ضبط الأسعار وعدم انفلاتها والوصول إلى حالة من التضخّم، ما يمس الأغلبية الساحقة، والاتجاه نحو قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، وفق توافق وطني يتحمل الجميع مسؤوليته.

[email protected]