القلب والموسيقا

القلب والموسيقا
القلب والموسيقا

"صوت دقات قلب الأم" هو أول ما يسمعه الطفل لحظة خروجه للحياة، كما يمكن أيضا اعتبار الإيقاع الموسيقي لقلب الأم، أول لحن بشري يعرفه الجنين منذ الشهر الرابع لتكوينه البنيوي والعضوي من دورة حياته الجنينية، لأن حاسة السمع تعمل وتكتمل في ذلك الوقت من نشأته الأولى. 

اضافة اعلان


نعي جميعا بأن الطفل عندما يبكي يميل للهدوء عندما تحتضنه أمه، وكأنه بذلك يتذكر كيف استطاع هذا الطفل البقاء هادئًا في رحم أمه خلال فترة الحمل، عندما كان يصغي إلى أجمل موسيقا إلهية مؤلفها وملحنها وعازفها الأول هو القلب، وكذلك يعتبر القلب العضو الوظيفي الأول في حياة الإنسان، حيث يعمل منذ اليوم الواحد والعشرين في تكوينه الأولي. وفي هذا الوقت يتناغم قلب الجنين مع قلب أمه ليعزفا معًا أول لحن بشري مشترك عرفه التاريخ، ألا وهو لحن الحب، ويبكي الطفل بصورة حادة بعد الولادة مباشرة، تعبيرًا عن سخطه ولابتعاده القسري عن سماع موسيقا قلب أمه!.


ومن جمال الحياة أن المولود الجديد عندما يوضع على صدر أمه الأيسر من جديد، يعود للهدوء والنوم، بل والإصغاء لصوت قلبها المفعم بالمودة والرحمة والحب.
في تجارب سابقة وضعوا تسجيلا لصوت نبضات قلب الأم في دمية، وكان الأطفال يميلون إليها للهدوء وفي بعض مراكز الولادة والأمومة في الدول الإسكندنافية كانوا يسجلون صوت قلب أم الطفل قبل ولادته، ليبثوه في حجرة الطفل بعد ولادته أو حتى في الحواضن المجهزة لاستقباله، لأنهم يعرفون مسبقا أهمية التواصل الروحي وخاصة بموسيقا القلب، وحتى ينعم الطفل باللحظات الأولى من حياته الدنيوية بأجمل وأعز وألطف وأرق موسيقا محببة للأذن، بل وحتى لا يتعرض الطفل بشكل مفاجئ لضجيج العالم الحضاري وإزعاجاته المختلفة منذ اللحظة الأولى للحياة!.


وبعد أيام من الولادة، نرى أن المولود يحب المناغاة ورؤية وجه أمه، وإذا ما بدأت الأم بالغناء لطفلها نراه يسترخي في حضنها ويتابع معها اللحن الجميل.


ولقد أثبتت البحوث العلمية الحديثة، أن الأطفال الذين رضعوا من أمهاتهم وعلى موسيقا قلوبهن لمدة تزيد على السنة، غالبا ما تنمو لديهم المقاومة الطبيعية بصورة كبيرة، ولا يصابون بالأمراض إلا ما ندر، وكذلك أثبتت دراسات أخرى أن الأطفال الذين يدرسون الموسيقا ويعشقونها لمدة أطول، تتحسن نتائجهم في اختبارات الذكاء.


ولقد وجد أيضا أن الإنسان يتذكر المعلومات بطريقة أسرع إذا اكتسبها أثناء سماعه لموسيقا خفيفة، فسماع قطعة الموسيقا الهادئة التي تسر حاسة السمع كل مرة، يحدث ترابطا بين المعلومات والموسيقا والمخ، وهذا الترابط يقوي انطباع المعلومات في الذاكرة ويسهل استعادتها في الذهن، كما تحفز الموسيقا سرعة التعلم والإبداع العلمي وكسب الأصدقاء، وبعض الجراحين العالميين يستخدمون الموسيقا وسيلة للاسترخاء وتحضير المريض قبل العملية الجراحية، بل وقد يتفق المريض مع الطبيب الجراح على نوع الموسيقا أثناء العملية الجراحية. 


ولهذا وجد أيضًا أن الموسيقا تستخدم وسيلة لتخفيض الفترة اللازمة للنقاهة بعد العمليات الجراحية، وكذلك تستعمل بعض المستشفيات الغربية الموسيقا لتسكين الألم، فلقد أثبتت التجارب أن النساء اللاتي يستمعن إلى النغمات المحببة إليهن خلال الولادة، تقل حاجتهن إلى استعمال المخدر والمسكنات بنسبة خمسين في المائة، وتستخدم الموسيقا في علاج بعض الأمراض النفسية والعصبية، وذلك بأن يجلس الإنسان باسترخاء ويغمض عينيه ويتنفس مع إيقاع الموسيقا، وكأنه يتنفس النغمات، ومع الزفير يتخيل أنه يخرج التوتر  من جسمه، ثم يستنشق ثانية، وهو يتخيل أن النغمات تحدث صدى متناغمًا في جسمه، أما الحزن فيمكن علاجه بالموسيقا، كسماع موسيقا متقلبة النغمات مثل، موسيقا شوبان أو موسيقا لها صدى وذكريات حلوة بالنسبة للإنسان، وكذلك الغضب يعالج بالموسيقا العالية ذات الإيقاعات المنتظمة مثل موسيقا بيتهوفن أو أصوات الطبول.


والأشخاص الذين يحبون الموسيقا الكلاسيكية والأغانيات القديمة والهادئة، غالبًا ما يتمتعون بالذكاء والقدرة على التحمل والخيال الواسع والتحرر السياسي، أما الأشخاص الذين يحبون موسيقا الروك أو الأغانيات الصاخبة الجوفاء والتي لا معنى لكلماتها، فيميلون إلى الانفعال والتمرد وحب الاستطلاع، وركوب الأخطار وكثرة الكلام دون تفكير أو حسن تدبير أحيانًا أخرى. أما محبو موسيقا الطرب أو الموسيقا الريفية أو التراثية، فإن هؤلاء يحبون البساطة والمرح ومساعدة الآخرين، وهم جذابون ومتمسكون بالأفكار المحافظة. 


وعندما نسي العرب موسيقاهم الخالدة على ألحان الناي والعود والقانون، بل وعندما مزجوا موسيقاهم بآلات الإلكترونيات الصاخبة، ظهرت لديهم الموسيقا الضبابية المعاصرة، وسموا هذا بالموسيقا الشبابية، بل وتسابقوا لتسجيلها على شرائط الفيديو كليب. بالصوت والصورة، لتخفي وراءها رداءة الكلمة واللحن أحيانًا والصوت أو الغناء أحيانًا أخرى. 


وعندما زرت البرازيل وجدت أن الموسيقا العربية تعود من جديد وعلى أيدي أبناء المهاجرين العرب الأوائل، والذين أحبوا وتذوقوا موسيقا الكلمة والطرب، والنابعة من إحساس القلب، والتي تسر الأذن والعين معًا. 


لقد نسي الإنسان المعاصر نفسه هذه الأيام وظن نفسه أنه اخترع الموسيقا عن طريق الصدفة، وعليه أن يعلم دائمًا وأبدًا أنه قلد الطبيعة فقط، وكانت أصواتها مصدر إلهام له، مثل أصوات الطيور وتغريد البلابل، وصوت حفيف الأشجار وخرير المياه وأصوات الأمواج على شواطئ البحار، ومن هذه الأصوات اتخذ مرتكزًا لأصول الموسيقا. ولكن سيظل القلب سيدًا وقائدًا للموسيقا الخالدة، لأنه يشدو دائما بلحن الحب، بل وستظل قلوب طيور الحب تعزف موسيقا السلام والأمل بمستقبل أفضل، رغم أنف ضجيج وصخب موسيقا قلوب صقور الحرب.

الصيدلي إبراهيم علي أبورمان/وزارة الصحة