"الرابية" وفوضى السرديات

أيمن الخطيب
أيمن الخطيب

على مدار ستة أشهر من عدوان "كيان الإبادة الجماعية" الإنعزالي على قطاع غزة وما خلفه من عشرات الآلاف من الشهداء والجوع والحصار، لم تغب اللحظة الوطنية الأردنية عن الحدث بل كانت جزءا منه في مختلف ساحات المملكة على امتدادها من الشمال إلى الجنوب عبر مظاهرات ومسيرات يومية تعكس حالة الغضب الرفض الشعبي للتطهير العرقي الذي يمارسه اليمين الإسرائيلي ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني في غزة. لحظة وطنية فارقة استوعبت في داخها المكونات الأردنية كافة واكتسبت لنفسها تعابير سياسية واضحة لتجيب عن موقع وموقف الأردن من كل ما يحدث وتؤكد على التراث النضالي الوطني الأردني الذي كان دوما يشير إلى فلسطين وقضيتها وأهلها، والتاريخ المشترك والمصير الواحد لضفتي النهر.

اضافة اعلان

 

  بشكل عام، تُعرّف المظاهرات والمسيرات والوقفات الاعتصامية بأنها حالة احتجاج مدني تنظمها قوى سياسية اجتماعية منظمة أو غير منظمة، لغايات تسجيل موقفها السياسي، وهي بذلك تتربع على أعلى درجات العمل العام الراقي والواعي وتجسد مبدأ الحريات العامة وحريات الرأي والتعبير إضافة إلى كونها باروميتر يقدم قراءات حقيقية تقيس مستوى الديمقراطية. أما جمهور تلك المظاهرات فهو جمهور نفسي أكثر من كونه سياسيا واعيا لما يريد وليس دهماء، حركة مشاعر غامضة من الغضب والرفض والبحث عن مساحات للتفريغ، وفي الخلف غالبا ما تبرز قيادة كامنة توظف حالة الحماس الجماهيري لتسهيل تمرير خطابها ولغتها وأهدافها في لحظة تبدو وكانها حالة من التنويم المغناطيسي الجماعي. لذلك فإن مظاهر مثل الإنفلات والتعدي والعنف والتجاوزات هي جزء من حالة التظاهر وليست بمعزل عنها، الأهم هو أن تبقى مظاهر طارئة لا أثر لها بالمعنى الكامل وعدا ذلك فإن شكوكا لا تنتهي ستظل تكتنف هذه المظاهرات.


"الرابية" بوصفها ليس فقط مكانا للاحتجاج بل أيضها بوصفها حالة رمزية سياسية في وجدان الأردنيين، كانت مركز الاهتمام للمظاهرات الشعبية في الأردن، وخلال الأيام القليلة الماضية انتقلت "الرابية" بكل ما تحمل اليوم، من ميدان تسجيل المواقف السياسية إلى ميدان استقطاب حاد بين الدولة والشعب وبين الشعب ونفسه، مهندس هذا الاستقطاب هو فوضى سرديات متناحرة لكل فريق منها مبررة الذي يستند على تراثه النفسي والثقافي وتجربته الاجتماعية، وفي محاولة لفهم أعمق لما يحدث تبدو الصورة كما يلي :


أولا: المتظاهرون غالبيةً هم أردنيون أصليون في مجتمعهم انتفضوا وهم يشاهدون القتل الجماعي والتطهير العرقي لإخوانهم وأخواتهم في غزة، محركهم الألم الوطني والإنساني وغيرتهم وكرامتهم وشهامتهم بالدفاع لو بالكلمة عن عذابات أشقائهم، أكثرهم من الشباب بخلفيات ثقافية وأيدولوجية متباينة ينتمون إلى تقسيمات اجتماعية عالمية جديدة، ولديهم لغتهم الخاصة مختلفة جذرياً وأدوات للمعرفة قنواتها متعددة ومتنوعة.


ثانيا: المتظاهرون أيضا، هم قوى سياسية من بينها تبرز جهة تمتلك خطابا فوق وطني يتجاوز الوطن الجغرافي والتاريخي، له إرث كبير من سياسات احتكار الشارع واستثماره وتوظيفه لمصالح سياسية وثقافية تخصه وحده، وهي جهة مرتبطة – باعترافهم – بمشروع إقليمي ودولي عابر يرى في الأردن كيانا طارئا ومؤقتا ومستحدثا، وهي جهة أيضاً ترى في فكرة أضعاف الدولة ومؤسساتها وتفتيت المجتمع الحالة المثالية، وتستغل الظروف الراهن وتستنزف الهبة الجماهيرية العفوية لتحسين شروطها وتعظيم مكاسبها دون أي اعتبارات وطنية ناهيك عن رصيد من الممارسات الرجعية التي ساهمت في تغذية الانقسامات والفضاءات العامة السامة. 


ثالثا: خارج الرابية، تقف هناك الدولة ومؤسساتها التي تراقب وتستجيب للحدث وفقا لتقديراتها الأمنية ومعادلاتها السياسية، لم تمنع الدولة أي مظاهرة لكنها تحاول إبقاءها ضمن سيادة القانون، وتتمسك بمبدأ هيبة الدولة ورموزها، كما تقف أيضا القاعدة الجماهيرية المؤيدة للدولة ومعها أغلبية صامتة يشتركون جميعا في الدفاع عن الدولة ويناهضون – وفق تصورهم -  الولاءات الخارجية وأشكال التعدي على الفضاء العام والدولة وأجهزتها ومنتسبيها.


في ضوء فوضى السرديات هذه ولغايات الخروج منها بسلامة ومنع كرة الثلج الاستقطابية أن تكبر أكثر، ينبغي الاعتراف أن الموقف الشعبي ينسجم مع الموقف الرسمي الذي بدوره يتم "تخشينه" يوما بعد يوم دبلوماسيا، ويتراكم بشكل ملفت وسط تحركات رسمية من أعلى مستوى في الدولة استطاعت تحقيق استدارة في الرأي العام العالمي لصالح القضية الفلسطينية ووسط حملات مستمرة لتقديم المساعدات والإغاثات الإنسانية، يحدث هذا كله في خضم أعاصير إقليمية تضرب الأردن في كل الاتجاهات واستحقاقات سياسية من الطراز الثقيل. وهذا بحد ذاته تأصيل للحظة وطنية فارقة ومهمة يجب البناء عليها وتمتينها.


كما ينبغي الفهم والإقرار بأن الحفاظ على الأردن دولة ومؤسسات وقيادة وشعب وتعزيز الجبهة الداخلية هو الضرورة ومصلحة وطنية عليا في ظل توازنات أقليمية كبيرة ليس لها قلق من الدور الأردني في المنطقة فحسب، بل تملك مشاريع تسوية تنظر إلى الأردن الجغرافي والديموغرافي على أنه الحل البديل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وهو ما يستدعي التصدي لأصحاب هذا المشروع وتفكيك خطابهم وتجفيف منابعهم الفكرية والسياسية والمالية.


إضافة إلى ذلك، وعلى قاعدة خيارات الضرورة ذاتها وفي العمق الإستراتيجي الأعمق، فإن كلفة احتضان المتظاهرين من غير أصحاب الأجندات وعلى رأسهم الشباب والنقاش السياسي معهم ومحاورتهم على قاعدة وطنية وعدم نزعهم من أردنيتهم، أقل كلفة، من عزلهم وطنيا وإقصائهم خاصة إذا ما كنا نتحدث عن كلف اجتماعية وأمنية وعن توافر مناخات مناسبة جاهزة لاختطاف هؤلاء الشباب وتجييرهم لصالح مشاريع الرجعية والتطرف والعنف.


عموما، قدر الأردن أنه خلق ليكون ويعيش في قلب النار، ومسؤوليتنا الوطنية جميعا ألا نجعله يحترق، والحقيقة المطلقة أنه لن يحترق.