بالونات

د. لانا مامكغ أخبارُ الصّباح يومها كانت قد حملت مقاديرَ إضافيّةً من النّكد.. فلم أستطع مقاومة الغمّ الذي استوطنني بعد الاستماع لها، ولم تنفع أيُّ وسيلة من وسائل استجلاب الطّاقة الإيجابيّة لردّه، بل استعددتُ للخروج وأنا أتساءل بحرقة عن التوّقيت الذي سيسأمُ به أولئك الأشرار بأنواعهم ومواقعهم في العالم، من بثّ سمومهم التي لا تنتهي في تفاصيل حياتنا، نحن الشّعوب المقهورة التي تتنفسُ القهرَ، والإحباط، وترقبَ الأسوأ كلّ لحظة! في الطريق، قرأتُ لافتة مكتوب عليها «شارع إبن خلدون» فغضبتُ بسبب الهمزة غير الّلازمة على كلمة «ابن».. ثمَّ قلت لنفسي: «هي أعراض الإحباط ونقص الأوكسجين من التّوتر… اهدئي!» لكن طالعتني لافتة أخرى معلّقة على أحد الجسور مكتوبٌ عليها: «إكفل طفل يتيم ب (15) دينار» فغضبتُ من جديد لأنَّ الأصل أن تستشير المؤسّسة المعنيّة بالأمر أحد المتخصصين بالّلغة العربيّة ليكتب الإعلان هكذا: «اكفل يتيماً ب ( 15) ديناراً» لأنَّ اليتيمَ لغةً هو طفل، وهو هنا مفعولٌ به يتوجبُ نصبه، ولا داعي لإضافة الهمزة للفعل، وكلمة دينار تستوجبُ النّصبَ كذلك! مهلاً، وأدركتُ أنّي في حالةٍ تشبه الهذيان، وإلا فلماذا تقمصتني شخصيّة المدقّق الّلغوي فجأة؟ سرتُ قليلاً لألمح أحدَ العمّال الوافدين ينظفُ الرّصيف أمام إحدى الفلل بخرطوم مياه، فأغضبني مشهدُ الماء المتدفّق ونحنُ على مشارف الظّمأ … لأجدني أتوقّفُ عنده لأخبره أنَّ ما يفعله سيعرّضه لمخالفةٍ من الشّرطة البيئيّة! «وتركته مشدوهاً، ومشيت وأنا أدعو الله من كلّ قلبي أن يحصلَ فعلاً ما ادّعيته! ومضيتُ لأهربَ من أزمة السّير الخانقة باتّجاه طريق فرعي مختصر حول أحد المراكز الطّبيّة الكبرى، لتبتلعني أزمةٌ من نوعٍ آخر، فأدركتُ أنّه كان خياراً أبله… عندها، توقّفتُ بسكون واستسلام مع باقي المركبات، لتلفتَ نظري امراةٌ مسنّة تتسوّل بين السّائقين.. أعطاها أحدهم ديناراً، وآخر فعلَ الشّيءَ ذاته. أمّا إحدى السّيّدات فمدّت لها ورقةً بخمسة دنانير… ثمَّ جاء دوري، فتشاغلتُ عنها حتى سئمتْ وابتعدت… ماذا يحدث؟ سألتُ نفسي، ببساطة، الشّارعٌ مكتظٌ بالعيادات، والمرضى المنهكين، ومرافقيهم، الجميعُ هنا ساعٍ لاهث وراء الشّفاء والسّلامة، وتنظيمات التّسوّل تدركُ هذا جيّداً، لذلك فهي تنجح في استهداف هذه الفئة، خاصّة حين توظف سيّدة مسنّة تتقنُ فنونَ الدّعاء للمتعبين! وبدأتُ أدعو الله بدوري أن ينتهي هذا النّهار بأيّ طريقة، المهم أن ينتهي… إلى أن لمحتُ رجلاً وطفلةً يخرجان من أحد المحلاّت بباقةٍ من البالونات الملّونة، ثمَّ لأراه يسلّمها إلى الصّغيرة بعد إلحاحها، حسبما توقّعت، لكن، في لحظةٍ ما، أفلتت من يدها الرّقيقة لترتفعَ في الأجواء نحو السّماء الرّمادية، فتنثرَ بهجةً مفاجئة في الشّارع الحزين … نظرتُ نحو الرّجلِ الذي بدا مذهولاً حائراً خائباً، لأكتمَ ابتسامةً شاءت أن تفرضَ حضورَها في لحظةٍ تستدعي التّعاطف لا غير… أمّا الطّفلة فقد كانت قد سرحت في تحليق البالونات بملامحَ بريئةٍ مفعمةٍ بالدّهشة والسّعادة والفرح! الخلاصة، أنَّ هذا المشهدَ العابر أزاحَ سحابةَ الغمِّ عن قلبي، وأعادَ لي الثّقة أنَّ إيقاعَ الحياة والجمال سيبقى أقوى من أصوات الشّر مهما علت… ومهما ملأت الدّنيا ضجيجاً!

المقال السابق للكاتب

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا 

اضافة اعلان