نهاية حكم الأقليات

رغم كل ما يسود الوضع الإقليمي الراهن من مظاهر دالة على استفحال حالة الفوضى العارمة، واشتداد حدة الاستعصاءات، وضعف اليقين إزاء ما قد يشي به المستقبل المنظور من متغيرات ما تزال ملتبسة ومفتوحة على سائر الاحتمالات، فإن الشيء الوحيد الذي يبدو واضحاً على نحو شبه مؤكد، ماثل في حقيقة أننا نقف اليوم أمام عتبة نهاية حكم الأقليات. وهي الحالة التي سادت المشرق العربي لعقود طويلة، تحت مختلف الذرائع والأحابيل والشعارات، وحققت غلبتها بالقمع والفساد والعربدات.اضافة اعلان
مثل هذا الافتراض عن بداية غروب شمس الحكم الأقلوي، يقوم على قراءتين. أولاهما، مستمدة من واقعة التقسيم الاستعماري شبه العشوائي لحدود الكيانات في هذه الرقعة الجغرافية، ذات الفسيفساء الطائفية والمذهبية والعرقية، لاسيما في العراق وبلاد الشام. وثانيتهما، مستلهمة من قراءة مستقبلية لواقع هذه المنطقة التي انهارت فيها التوازنات القديمة، وشهدت متغيرات جديدة، وتراكمت على أديمها حقائق غير قابلة للإمحاء، مهما كانت التطورات التي ما تزال في طور التفاعل حتى الآن.
وبما أن القراءة التاريخية لمكونات الدولة القطرية أطول مما يتسع له المقام في هذه العجالة المخصصة حصراً لمناقشة فرضية نهاية حكم الأقليات، فإننا سوف نغض البصر عن هذه القراءة، لنركز الحديث على ما يسمى بالقراءة الاستشرافية لمستقبل هذه المنطقة، على ضوء الانفجارات المدوية، وتداعيات سلسلة الزلازل الارتدادية التي ضربت البنى الفوقية الهشة لحكم الأقليات، بعد أن زعزعت الاضطرابات قبضتها الأمنية، وأفرغت خطابها التقليدي من ادعاءاته الزائفة بالعلمانية والقومية والتقدمية، وكشفت وجهها الحقيقي كمنظومات حكم طائفي على رؤوس الأشهاد.
لنأخذ العراق وسورية، وهما أكبر وأهم بلدين في المشرق العربي، كمثالين ساطعين على افتراضنا عن بداية النهاية لحكم الأقليات، كي نرى بأم العين بلاد الرافدين التي تساكنت أقليتها بقوة الدولة المركزية القابضة على شمل البلاد والعباد بقوة الحديد والنار، قد تشظت مذراً منذ الغزو الاميركي، وآلت إلى دولة كرتونية قائمة على محاصصات طائفية متصارعة، إلى أن ضربها الزلزال الأكبر قبل نحو عام، حين اكتسحها "داعش" بضربة خفيفة واحدة، وأماط اللثام عن خواء دولة لم يكن لديها في واقع الحال جيش ولا حكومة ولا قضاء أو برلمان.
أما عن سورية، فحدث ولا حرج حول مسار النهاية الأشد وضوحاً، عن سيرورة زوال حكم طائفي تلحف بكل المزاعم، واستخدم أبرع الوسائل والأشكال والذرائع، لتسويغ هيمنته المطلقة على مقدارات الأكثرية، تارة باسم القومية العربية الخالدة، وطوراً باسم تحرير فلسطين السليبة، وأخيراً باسم المقاومة والممانعة، وغير ذلك الكثير من الترهات، التي تساقطت تباعاً تحت وهج تمرد شعبي مسلح غير قابل للاحتواء، وتكشفت هويتها الحقيقية المشينة، عندما تقاطرت المليشيات المذهبية من كل فج عميق، لإدامة حكم أقلوي دخل في طور التحلل والانكفاء.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن من سوء طالع الأقلية الحوثية في اليمن، أنها قامت باستيلائها على صنعاء، في لحظة تاريخية كانت تؤذن بالنهاية الوشيكة لحكم الأقليات في العالم العربي، بما في ذلك لبنان الذي تهيمن فيه طائفة على بقية الشركاء في البلد الصغير، بترسانة صاروخية هائلة، قادرة على تعطيل الحياة السياسية، لكنها لا تستطيع الانفراد بمقدرات بلد الطوائف الأشهر في المحيط العربي الواسع، الأمر الذي يضيف مظهراً آخر، أو مظهرين اثنين، على صحة افتراضنا بدنو أجل حكم الأقليات التي عاندت فطرة الأشياء، وذهبت بعيداً عكس عقارب الساعة، وأوغلت في العناد والدماء.
ومع أنه لا يمكن الاستنتاج بأن لا مستقبل للطوائف في هذا المشرق، الذي سبق له أن شهد وئاماً طويلاً بين مكوناته، وزاد غنى بتنوع مكوناته المذهبية والعرقية على مدى أجيال وأجيال، إلا أنه يمكن الافتراض من دون مراء، أن زمن حكم الأقليات وتحكمها بمصائر الأكثرية قد انتهى، أو أنه في طريقه الى الانتهاء، وذلك بعد أن بات بين أيدي الأكثرية، وهي هنا الأمة بتعريفها الواسع، منظمات غير نظامية مدججة بالسلاح حتى الأسنان، قوامها مئات الآلاف التي يتداخل فيها الوطني والديني مع الإرهابي، الأمر الذي يعزز القول إن زمن حكم الأقليات قد دخل في طور العد التنازلي، وأن تحقيق هذا الافتراض صار مسألة وقت ليس إلا.