رجلٌ في سنِّ اليأس!

قبلَ أيَّامٍ كانَ عيدُ ميلاده. بدا سعيداً أول النهار بمعايَدَةِ ابنتِهِ الصغرى، وقبْلَتِها الملائكيَّةِ على خدِّهِ السمينِ بأربَعِ بُقَعٍ داكِنَةٍ، وتجاعيدَ طريَّةٍ. في طريقه إلى العمل نظَرَ في المرآة الجانبيَّةِ لسيَّارتِهِ، ورغمَ التحذير المكتوبِ أسفلها بأنَّ القياسات لا تتمتَّعُ بالدقة، فقد لاحَظَ تضخُّمِ أنفِهِ الكبير أصلاً، ورأى بوضوحٍ شيباً في الحاجِبيْن. انتابَهُ قلقُ امرَأةٍ على وشَكِ اليأسِ، وتسرَّبَتْ إليه كآبَةٌ فاقمَتْها الفقَرَةُ الصحيَّةُ الإذاعيَّةُ التي خصَّصَتْها المذيعَةُ ذات الصوت الناعس عن أسبابِ الشيخوخَةِ المبكِّرة!    اضافة اعلان
تحسَّسَ جلدَ كفه، ولم يلحظ نمَشاً أو كلفاً، لكنَّه كانَ جافاً بلا حيويَّةٍ كأنَّما لم يُصبْهُ الماءُ منذُ خريفين عندما كانَ في أول الخمسين، وصارَ يتفقَّدُ ما يطرأ على جسده، بكفٍّ، وبالأخرى يطلبُ صديقاً، يسأله عن الشيخوخة: "هل هي أعراضٌ موسمية أم شعورٌ كئيبٌ طارئ؟"، ولأنَّ صديقَهُ كان قبل خريفيْنِ في أول الستين، فقد كانَ جوابُهُ مُزْدوجاً: "إنَّها أعراضٌ وشعورٌ"، ثمَّ يضحكُ بسعال جاف، ويقول قبلَ أنْ يَسْكُتا تماماً: "في موسمٍ خريفيٍّ دائمٍ"!
دخَلَ إلى مكان عمله مُتجهِّماً فبادَرَهُ المُراسِلُ بنُكْتَةٍ قالَها بصَوْتٍ خافِتٍ، وكانَتْ على الأغلب عن تراجع القدرات الرجوليَّةِ للخمسينيِّين. احمرَّ وجهه خجَلاً، كأنَّما باتَ سره مُعْلناً، ولمَّا جَلَسَ على مَكْتبِهِ متوتِّراً بوجه مُصْفَرٍّ، عدَّدَ له زميله المتشائِم دائماً خمس مقدِّمات مرَضِيَّةٍ تنطبقُ أعراضها على عمره، وأسهَبَ في الحديث عن أنواع الذبحات المفاجئة التي تنشطُ في عمر الخمسين.. توقَّفَ فجأة، ثمَّ بادَرَ لتهنئته: "على كلِّ.. كلَّ عامٍ وأنتَ بخير"!   
ولما جاءَ باقي الموظفين صار الأمرُ أكثرَ سوءاً..؛ فواحِدٌ منهم يختصُّ بالمبادرة للإخْبَارِ عن الأنباء السيِّئَةِ، تحديداً التي تتعلقُ بالرحيلِ المفاجئ لمَنْ هُمْ ليسوا في سنِّ المَوْتِ، حمَلَ خبراً مفاده أنَّ قريبَهُ الذي كانَ حتى العاشرة من مساء أمس عفياً، يأكلُ طعامَ الاثنيْنِ الذي يكفي ثلاثة، توفيَ فجرَ اليوم بنوبَةٍ حادَّةٍ. يسألهُ موظفونَ فضوليون عن عمر "المرحوم"، فيُجيبُ بالحسرَةِ التي باتَ يُتْقِنُها بكلِّ وفاة مباغتة: "خمسون أو أقل"!
كأنَّ الحياةَ الآن، وهو في طريقِ العودةِ إلى البيت، ماءٌ قليلٌ في كفِّه؛ إنْ قبَضَ عليه بشدَّةٍ تسرَّبَ من بين أصابعه، وإنْ أرخاها انسكَبَ على الأرض قبل بلوغ شفتيه. وفي هذه الأثناء تحديداً جاءه خبران: ابنته الكبرى أنجبَتْ لهُ حفيداً حملَ اسمه، وسيَصيرُ عمره ناقِصَ عُمْر جدِّه، وصديقه الستينيُّ دخَلَ بشكل مُباغِتٍ اليوم إلى الممرِّ الأخير في الحياة، وهو الآن كما أخبره ابنه بصوتٍ محايدٍ، لا ألم فيه "يعدُّ أياماً"! 
غطته زوجته بغطاءٍ إضافيٍّ، وكم ساءه أنَّها خرجت من الغرفة بدون أنْ تفتِّشَ في هاتفه المحمول على رسالة غرام غامضة، في الصباح حذَفَ رسالة من الحزبِ اليساريِّ تدعوه إلى محاضرة الرفيق الأمين العام، وعند الظهر انفعَلَ لأنَّ جهاز الضغط تعطَّلَ أثناء دوخته المعتادة، عصراً ارتابَ من أمر وخزه في القلب فجلس أربع ساعات في غرفة الطوارئ، في الليل دخَلَ في غيبوبة سُكَّرٍ...، ولما أفاقَ منها سألَ الطبيبَ المناوب: "أين أنا"، أرادَ أنْ يجيبه، لكنَّه قاطعه: " قل إنِّي لستُ في الممرِّ الأخير، وأعدكَ؛ أعدكم جميعاً أنْ أحبَّ الحياة"!

[email protected]