هواية الاستنساخ المصري في فلسطين

يعدّ دوار المنارة (أو دوار الأُسُود) مركز المدينة، ونقطة الالتقاء واللقاء في رام الله. تقع قريبا منه مكاتب شبكات إعلامية، أهمها قناة "الجزيرة"، التي يمكن لكادرها تصوير الحدث على الدوّار من نوافذهم. والشرطة الفلسطينية في الموقع تتساهل مع الفعاليات الشعبية. اضافة اعلان
يجمع الدوّار نفسه بين الجمال، والذكريات التاريخية؛ يوم كان مروان البرغوثي يخطب في الناس أثناء القصف الجوي والحصار زمن الانتفاضة الثانية، وبين طرافة مؤسفة وغريبة من نوع أنّ ذيل الأسود مقصوص، فيما يُعتقد أنّه عمل عابثين فعلوا ذلك غفلة، وقد لا يكون الأمر كذلك. وطرفة أخرى متداولة بحاجة إلى توثيق هي أنّ يد أحد الأسود تحمل ساعة (رأيتُها بنفسي)؛ والرواية المتداولة أنّ مصمم الدوّار انتهى من رسوماته في ساعة متأخرة من الليل فرسم ساعة تشير إلى الوقت الذي أنهى فيه عمله، ولم يدر في خلده أنّ منفّذي الدوار سينفذون رسم الساعة أيضاً.
هذه المقدمة عن موقع الدوار وتاريخه وطرائفه، تنسجم مع حيثيات بعض النشاط السياسي الذي يجري حوله. كثير من النشاط الفلسطيني الذي قد يقوم به عدد محدود من الشباب يلقى اهتماماً شديداً، لأنّه في مركز أماكن تواجد الإعلام. فإذا كان من يتظاهر في قرية نائية، أو يبني في أرض مصادرة للاستيطان، أو يقارع الاحتلال على حاجز، يحتاج جهداً مضاعفاً ليأتي بالإعلام، فإنّ الذاهبين إلى هناك يخطفون الأضواء، وتصورهم عدسات هواتف المارة ويروجون صورهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي. هذا فضلا عن أنّ مقر الرئاسة الفلسطينية (المُقَاطعة) قريب من الدوّار، ما يسهل اعتبار أنّ المسيرة تبدأ بالدوار وتنتهي بالرئاسة.
أول من أمس، طالبت مجموعة من الشباب الملثمين بضرورة إطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة على الاحتلال الإسرائيلي، ونظموا مسيرة انطلقت من الدوّار. وتطلق المجموعة على نفسها اسم "تمرّد"، وهو ذات اسم المجموعة التي قادت حملات جماهيرية حاشدة تطالب بتغيير الرئيس المصري محمد مرسي. وتطالب المجموعة بالتمرد على الواقع الفلسطيني، وتحديداً الاحتلال، وأنّ هذا في السياق سيكون أيضاً ضد القيادات الحالية، وضد الانقسام.
عندما حدثت الثورة المصرية، ظهر في الشارع الفلسطيني حراك امتد في مدن عدة، تحت عنوان "الشعب يريد إنهاء الانقسام". وتكوّنت خيام اعتصام، وتفاءل كثيرون بنهوض حركة شبابية فلسطينية ضد الانقسام وضد الوضع الراهن.
ما لا يخفيه هؤلاء الشباب الآن في ندوات وحوارات مفتوحة، هو أنّ شعارهم "شباب ضد الانقسام" كان وليد لحظته على دوار المنارة، وبدون نقاش مسبق، وأنّ الهدف من التجمع كان الاحتفال بمصر وثورتها حينها.
لا يمكن إلا احترام الشباب المبادرين وما يحاولون القيام به. وأعرف بعضهم شخصيّا، ونضالهم ونواياهم موضع احترام شديد. ويعكس حراكهم ونشاطاتهم يأساً من الفصائل والقوى السياسية التقليدية، ورغبة في تغيير الواقع البائس. ولكن ما يجب الانتباه إليه هو أنّ مسألة تبلور الشعار في اللحظة الأخيرة، والتسّرع في الاستنساخ، من نوع تبني اسم "تمرد" الذي بات جزءا من مشهد الانقسام في مصر أكثر منه تجسيداً للثورة كما توقع من تبنوا النسخة الجديدة للحدث المصري؛ يؤكدان أنّ الدروس لم يتم تعلُمها بعد. هل سيغيرون الاسم وينسونه الآن بعدما انشق المشهد عن حشد مضاد في مصر لتمرد؟!
استنساخ الربيع العربي غير ممكن في فلسطين لأسباب جغرافية ولوجستية؛ كالتشتت الديموغرافي، وتحكّم الاحتلال بالطرقات. كما أنّ استنساخ الانتفاضتين أمر بحاجة إلى نقاش أي نمط من الانتفاضتين، فهما نمطان متباينان، وكيف سيتم تجاوز الأخطاء فيهما؟
شباب الحراك السابق، على الأقل، لا ينكرون أنّهم استنسخوا أخطاء الفصائل في حراكهم، فاستنسخوا الانقسام والتخوين والاتهام، وتم احتواء بعضهم واختراقهم، وما إلى ذلك.
بمثل مفارقة ساعة الأسد، يبدو المشهد السياسي الفلسطيني مرتبكا؛ فيه جمال وإخلاص ونوايا صادقة، ولكن فيه تسرّع وبحث عن بوصلة.
لا يقلل هذا من وجود طاقات هائلة، ومحاولات واعدة، وإنجازات ضد الاستيطان، وقصص صمود مشرّفة وأسطورية ومواجهات لا تتوقف، ولكن كثيرا ما تكون بعيدا عن الإعلام، وتعاني التشرذم والمطبات الكثيرة.
النوايا الحسنة، والرغبة في الحراك، والطاقة الشبابية، يمكن أن تتحول إلى مشروع فلسطيني خاص فاعل، بعيدا عن الاستنساخ.