تشوهات متجذرة بالعمل العام

تصاب أحيانا بالدوار وأنت تتابع الشأن العام ومناقشاته والجدل المثار حول العديد من القضايا العامة، وتشعر أن أمامنا مسافة طويلة حتى نصل إلى مرحلة ترسيخ مفاهيم وآليات حقيقية لطبيعة العمل العام والتعاطي مع الشأن العام، وتجاوز ما نحن فيه من اختلالات وتشوه في المفاهيم والموقف من المجتمع والدولة.اضافة اعلان
قد يبدو ما سلف نوعا من التنظير إن لم يتم إسقاطه على العديد من أوجه التعاطي مع الشأن العام يوميا، واستنطاق الواقع ومحاكمته لتأكيد هذا الاختلال، العميق بحسب رأيي، حيث يمكن تلمس هذه المشكلة الأساسية في قضايا مثل العنف المجتمعي وتوسع ظاهرة العودة للهويات الفرعية على حساب الالتفاف حول الروابط الوطنية العامة، ومساهمة المجتمع بشرائحه المختلفة في إنتاج نخب سياسية واجتماعية متهافتة ومشوهة تسهم بدورها في إعادة ترسيخ وتكريس التشوه في العمل العام.
مناسبة هذا الحديث، هو ما ولدته الانتخابات الداخلية لمجالس المحافظات الجديدة وتوزيع المناصب الإدارية في الاجتماع الأول لها الأحد الماضي، حيث شكلت هذه الانتخابات في بعض المجالس ميدانا لانقسامات وتبادل اتهامات بالإقصاء لبعض المكونات الاجتماعية، فقط لأن هذا العضو أو ذاك لم يحالفه الحظ بالفوز برئاسة المجلس أو بمنصب إداري فيه! فيما خرج البعض سريعا من أول اجتماع ليعلن مقاطعته للاجتماعات المقبلة للمجلس احتجاجا على "الإصرار على الانتخابات الداخلية" لاختيار الرئيس ومساعديه!
نعم؛ مقاطعة مجلس المحافظة الذي تم انتخابه بانتخابات "اللامركزية" الأخيرة لأول مرة في تاريخ الأردن كخطوة اعتبرت إصلاحية، والتبرير للمقاطعة هو "الإصرار على الانتخابات الداخلية"، بدعوى ان نتائج الانتخابات أقصت ممثلي بعض الدوائر والمناطق في المحافظة! والمقصود بـ"الإقصاء" هنا عدم تقديم ممثل هذه الدائرة أو تلك لترؤس المجلس أو استلام منصب نائب الرئيس.
بمثل هذه المفاهيم المشوهة للعمل العام التي تقع فيها نخب مجتمعية تشعر أنه ما يزال أمامنا الكثير من الوقت والجهد والمعاناة، حتى نصل الى مرحلة محترمة من العمل العام نطمح لها كلنا كما يفترض. فالمنطق والقانون يقولان إن مجلس المحافظة بعد انتخابه، وبكل أعضائه، بات ممثلا للمحافظة ولكل مواطنيها ومناطقها. كما أن الرئيس أو نائبه ليس أكثر من صوت واحد مساو بالقوة لكل صوت في المجلس عند اتخاذ القرار، وقد لا يتميز الرئيس أو نائبه إلا بوجاهة المنصب فقط، فيما القرار والقدرة على الإنجاز والخدمة هي حاصل جهود وعمل مجموع أعضاء المجلس.
من البدهي القول إن ميدان التنافس والخلاف والشد والجذب في مجلس المحافظة يجب أن يكون في مناقشة وإقرار المشاريع والاقتراحات التنموية والخدمية، والرقابة على الأداء العام للمؤسسات الرسمية العاملة بالمحافظة، أما الخلاف والاستقطاب والمقاطعة والحرد على خلفية الانتخابات الداخلية وتوزيع المناصب الإدارية فهو ما لا يمت للعمل السياسي أو العام بصلة، بل فيه خذلان للناخبين وتشويه للعمل العام، وجرّ الناس إلى مربعات الاستقطاب والسلبية بدعوى الإقصاء والتهميش، رغم أن القصة وما فيها صراع على مناصب ووجاهات!
المواطنون ينتظرون اليوم من مجالس المحافظات أداء وفعالية في تقديم الخدمات والرقابة على شروط وسياسات التنمية في هذه المحافظات، وتمثيل مصالح الناس وهمومهم. تجربة اللامركزية التي نضع أقدامنا على أولى خطوات طريقها اليوم لا تحتمل خلافات واستقطابات على المناصب داخل مجالس المحافظات، خاصة أن الأخطر في ذلك هو انسحاب مثل هذا الاستقطاب إلى المجتمعات المحلية، التي تعاني أصلا من كارثية مثل هذه الاستقطابات على غير صعيد!