جدل العلاقة بين اللغة والهوية (3)

* اللغه هي عنوان الوجود والهويه، باعتبارها المستودع الأمين الذي تختزن به مقومات الانتماء، وذاكرة المستقبل

* لا تكتمل الهويه الثقافية ولا تبرز خصوصيتها الحضارية إلا إذا تجسدت مرجعيتها في كيان شخص تتطابق فيه ثلاثة عناصر: الوطن، والأمة، والدولة

اضافة اعلان

 

د. عيسى برهومة

عالج الباحث الأكاديمي د. عيسى برهومة في جزأين سابقين من دراسته الضافية هذه سؤال اللغة والهوية، ناظرا إلى اللغة باعتبارها تشكل ذواتنا وتصوغ الآخر في ذهننا المختزل، فضلا عن كونها الوعاء الحاضن لمنجزات الحضارة، والشاهد الأمين على تاريخ الأمة ومسار تطورها وعنوان وحدتها ورمز هويتها.

ورأى في الجزء الأول( الجمعة 23/1/2009) أن الهوية العربية الإسلامية أضحت تتفاعل مع الآخر وشكل المقاومة والتكيف والانغلاق والتجدد، مؤكدا على أن الهوية الراسخة لا تزعزعها بعض الترهات، فلن يصبح العربي أميركياً أو بريطانياً حتى لو ولد وأمضى حياته هناك؛ لأن الجذر الصلب لا ينتزع.

وعاين الباحث في الجزء الثاني من دراسته ( الجمعة 30/1/2009) أفكار الفيلسوف الألماني هيدجر الذي قال إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع، فاللغة التي تدل على هوية الفرد وتكشف عن ذاته ومن هو؟

وفي الجزء الثالث والأخير من دراسته يرى الباحث أن التبعية الفكرية والثقافية، والغزو الفكري، والانبهار بالآخر، وبثقافته يضعف اللغة التي هي وجه من وجوه الهوية.-(المحرر)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أدرك الساسة أهمية اللغة منذ المراحل المبكرة للتوسع الإمبريالي، فكانت تستخدم لغة المستعمر لصهر لغة المستعمَر وذوبانها وذوبان الشخصية، وأيقن المستعمر أنه ليتغلغل في البلاد والمجتمعات لا بد من السيطرة على اللغة، بترويج لغة أخرى، وحين استقلت البلاد من المستعمر إلا أنها بقيت تحت وطأتهم ثقافيا ومن حيث اللغة.

فإن اللغة هوية، وليست "الهوية" لغةً، بمعنى أن اللغة ليست المقوم الوحيد للهوية، وإن كانت من أهم هذه المقومات، وأشدها خصباً وعمقاً وتركيباً. إن العلاقة بين اللغة والهوية هي علاقة الخاص بالعام، فالهوية أعم من اللغة؛ لأن الهوية لها تجليات عديدة غير "اللغة" إذ إنها (الهوية) ببساطة متناهية ليست سوى تلك القواسم المشتركة أو القدر المتفق عليه بين مجموعة من الناس، ذلك الذي يميزهم ويوحدهم، وليست اللغة وحدها التي تقوم بهذه المهمة، وهذا يعيدنا إلى المقومات الأخرى للهوية.(1)

فاللغة هي أساس الأمة وهي التي تربط الحضارات بعضها ببعض، وهي التي تخلد الأمم، فكأنها مفتاح الغد الذي يختزل الماضي وإرثه؛ فالثقافات تتحاور وتتداخل وتتلاقح وكذلك اللغات، بل هناك أيضاً لغة تهيمن على الأخرى؛ يقول (ابن خلدون): إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك الاقتداء، أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضا بذلك عن الغلب"(2) ، ومن هنا تكمن الهيمنة؛ هيمنة اللغة، فالقوة تكمن باللغة في الأساس، فالمغلوب يتبع الغالب ويقلده، ويبقى مبهوراً به، متأثراً به من الناحية اللغوية والثقافية والسلوكية وحتى في الزي كما يقول ابن خلدون، فاللغة المهيمنة هي لغة الدولة المهيمنة، فحينما كانت الدولة الإسلامية قوية ومسيطرة شاع اللسان العربي وتفوق على غيره من الألسنة، لكن بعد ذلك تزعزع اللسان العربي، وخاصة مع دخول العجم بكثرة، يقول (ابن خلدون): ولما تملّك العجم وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية فَسُد اللسان العربي لذلك، لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة.(3)

فتقوم الهيمنة اللغوية بالسيطرة على مخرجات العلم والبحث العلمي والتقني، والمفاهيم الاصطلاحية، وعلى إبقاء حالة من التبعية اللغوية والعلمية والفكرية ولا يحدث هناك نوع من التطور أو الإبداع بسبب التبعية/ الهيمنة إلا إذا قامت اللغة الأم بالسيطرة على المفاهيم والتدريس من خلال التعريب والابتعاد عن الاقتداء بالغالب، فالخروج من التبعية اللغوية يجعلنا نستجمع قوانا اللغوية بالتدريس باللغة الأم، وإنتاج بحث علمي متطور بعيداً عن الهيمنة والضعف، فلا يذكر أن دولة أجنبية تدرس وتقدم علومها بلغة غير لغتها الأم، فالياباني لا يقدم علومه بالإنكليزية والفرنسي كذلك لا يتعلم معارفه بالإنكليزية، والإنكليزي لا يتعلم الفرنسية، على عكس العربي الذي تنشَّأ على اللغتين العربية والإنكليزية معا، ويشترط اللغة الإنكليزية للحصول على الوظيفة في حين العربية لا تشترط في شيء حتى طالب اللغة العربية لا يشترط أن يتقن هذه اللغة، وهي لغتهم الأم.

فاللغة إذن تحيا بالاستعمال ولا تحيا في بطون الكتب، وأصبح معروفاً أن اللغة وإتقانها يؤثران في مدى الحصيلة المعرفية ودرجة الإبداع والإتقان العلمي، وأن اللغة تهيمن على الحياة العلمية والعملية وتُغْني الحضارة الإنسانية.

ويرى (حسن حنفي) أنه في الهويات يتوحد العالم كله، تحت سيطرة المركز، وتصبح ثقافته هي نموذج الثقافات، وباسم المثاقفة يتم انحسار الهويات الثقافية الخاصة في الثقافة المركزية مع أن مصطلح المثاقفة سلبي ويعني القضاء على ثقافة لصالح أخرى، ثم ابتلاع الأطراف داخل ثقافة المركز، وتبرز مفاهيم جديدة؛ التفاعل الثقافي.. لتنتهي إلى أن ثقافة المركز هي الثقافة النمطية، ممثلة الثقافة العالمية(4)، وأما الآن فنجد ضعف اللغة العربية وبسبب اللغة الأجنبية التي تعد هي اللغة المهيمنة، فالإنكليزية تمثل ما نسبة 80% من رواد الشبكة المعلوماتية (الإنترنت)، وهذه تعد نزعة كولونيالية لسانية جامحة.

فيرى (بيورشفيلد) أن اللغة الإنكليزية أصبحت سمة مصاحبة للثقافة والفكر، لدرجة أن الشخص المثقف في مجتمع ما، أو الحاصل على مستوى تعليمي عالٍ ولا يتحدث الإنكليزية ينظر إليه بشيء من الانتقاص وربما يمارس ضده الإقصاء، ونستطيع غالباً ملاحظة الإقصاء والنظرة الدونية المرتبطة بالفقر، والمرض، والمجاعة، ولكن الإقصاء اللغوي أو النظرة الدونية المتعلقة باللغة قد لا نلاحظها بشكل مباشر، وهي في الواقع على قدر كبير من الأهمية (5)، وهنا كان الفقر والمرض والمجاعة ناتجة من عدم معرفة اللغة الإنكليزية، فتعلمها سبب السعادة والغنى، هي إذن تزيل الصورة النمطية عن كونها صاحبة الاستعمار، ويتم دعمها في السوق اللغوية من خلال الجهود التي بذلتها بريطانيا في الاستعمار والإمبريالية في القرن السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر، وبرزت الآن على يد الأميركان بوصفها قوة عسكرية كبيرة ومتميزة تقنيا.

فالهيمنة اللغوية هي تلك الظاهرة التي تسيطر على عقول شعب معين اتجاه لغة أجنبية مهيمنة على لغتهم الأصلية، بحيث يعتقدون أنه يجب عليهم استخدام اللغة الأجنبية في تعاملاتهم اليومية، وفي نظامهم التعليمي، وفي جوانب الفلسفة والأدب، والمعاملات الحكومية والقضائية والإدارية، إن الهيمنة اللغوية تتبع منهجية تمكنها من السيطرة حتى على عقول النخبة، بحيث يظن المرء بأن لغته الأصلية لا ترقى إلى مصاف اللغة الأجنبية المهيمنة وبذلك يبدأ العزوف عن اللغة الأصلية واحتقارها.(6)

وإن تعلم لغة أجنبية يدل على طريقة حياة جديدة وثقافة جديدة، والتعرف والتعلق بالآخر لتغدو هي ذات الأنا، فإن دخلت هذه اللغة إلى حياة لغة أخرى قتلتها وحلت محلها، حتى وإن خرجت هذه اللغة الأجنبية إلا أنها تبقى في أنسجة اللغة فهي تقوم على أنسنة وتغريب اللغة، فيعبر (داي) عن الخوف من أن تيار طغيان اللغة الإنكليزية كلغة ثانية يعزز مثل هذا الإجحاف من خلال التركيز على إجادة عدد محدد من الناس للغة الإنكليزية.(7)

فيذهب الكثير من الناس إلى تعلم اللغة الإنكليزية إلى أهداف اجتماعية نسميها "النفاق اللغوي الاجتماعي" ونعرف هذه الظاهرة بأنها: الإقدام على استخدام نظام لغوي أو بعضه إخفاء لخلفية لغوية ما وإلباساً على السامع، أن المتحدث ينتمي إلى طبقة رفيعة (غنية) وإنه حصّل هذه اللغة في مدارس أجنبية (ومعلوم أنّ المدارس الأجنبية تتقاضى رسوماً دراسية عالية جدا) وهم ينطوون على فكرة محورية مفادها أن الإنكليزية دليل على الرقي الاجتماعي (البريستيج).(8)

وبهذه الظاهرة الاجتماعية التي امتدت أرجاء المجتمعات قد تفقدنا لغتنا وماهيتنا، وإذا ما أمة فقدت لغتها تكون عندئذ قد فقدت الحياة، ودخلت في عِدَادِ الأموات، فلا يبقى سبيل إلى عودتها إلى الحياة، فضلاً عن استعادتها الوعي والشعور"، فقدان اللغة إذن موت.

إن التبعية الفكرية والثقافية والغزو الفكري، والانبهار بالآخر، وبثقافته يضعف اللغة ويبتعد عنها، فهو يتناول لغة الآخر وبسبب التبعية أو الانعزالية يؤدي هذا إلى إضعاف الارتباط باللغة وأحيانا يؤدي هذا إلى اندثار اللغة وموتها، ويجعلنا نفقد هويتنا بعد هذا الابتعاد عن اللغة، فالهوية هي اللغة. واللغة إن كانت قوية وصلبة فباستطاعتها هضم المؤثرات اللغوية والثقافية من أي لغة وحضارة، ولا يؤثر ذلك في نسيجها اللغوي، وبالتالي يقوي هذا من الحفاظ عليها وعلى الهوية والثقافة، وإن كانت اللغة ضعيفة فهي لا تستطيع هضم المؤثرات فتنصهر اللغة في المؤثرات اللغوية الجديدة والقوية وعملية الانصهار لا تكفي بل تقوم هذه اللغة على الهيمنة والأخرى على التبعية، وتطغى اللغة المهيمنة على الهوية وطابعها.

فاللغة هي عنوان الوجود والهوية، باعتبارها المستودع الأمين الذي تختزن به مقومات الانتماء، وذاكرة المستقبل، ولا تزول إلا بزوال الأمة، فهي مكنونها ومصدر تحديد الملامح الأساسية المعبرة عن طبيعتها، ومرتبطة بالتراث والماضي والحاضر، وهي تحدد ملامح المستقبل بتطورها مع تطور العلاقات الإنسانية والتقنية.

يقول (ابن خلدون): اعلم أن لغة أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة، أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها"، فلما هجر الدين اللغات الأعجمية، وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربيا، هجرت كلها في جميع ممالكها؛ لأن الناس تبّع للسلطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب.

فاللغة هنا تساوي الهيمنة وترتبط بها، وهذا يعني القوة، لكن اللغة ليست هيمنة في حد ذاتها، بل الهيمنة من يعلّيها أو من يميتها، ويعد ابن خلدون اللغة المستخدمة هي لغة الغالبين فكانت آنذاك اللغة العربية، وغدت المهيمنة والمستخدمة وكما أنها اللغة الشرعية وأضفت على الشخصية العربية خلوداً واستمرارية في الحفاظ على الطابع العربي وهويته، ولا يجوز استخدام أي لغة أخرى خاصة في النص المقدس والصلاة، وفي حالة الاستعمار هيمنت اللغة الفرنسية والإنكليزية، لكن لم تكن الإنكليزية مساوية للفرنسية وحين تم إقرار اللغتين معا، عارض الفرنسيون بشدة وضع الإنكليزية في وضع مساوٍ للفرنسية، وعندها أدرك الفرنسيون أن وقت هيمنة اللغة الفرنسية قد انتهى، وتقوم اللغة الفرنسية بعملية ترويج لها وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال الهيئات والمؤسسات التي تدعو وتدعم توسع اللغة الفرنسية عالميا فتم إنشاء التحالف الفرنسي لنشر اللغة الفرنسية عام 1883م، وهيئات نحو؛ لجنة هوات في عام 1966م، للدفاع عن الفرنسية ولدعم انتشارها، وقامت فرنسا أيضا بحملة لدعم وتشجيع الفرانكفونية، وقدم هذا نجاحاً كبيراً في الحفاظ على الفرنسية وعلى الترويج لها وانتشارها (9) ، وللحفاظ على هذه اللغة داخل فرنسا فقد قامت السلطات بفرض غرامة مالية لمن يتحدث بغير الفرنسية أو يستخدم لغة غير الفرنسية في الإعلان والإعلام وفي لافتات المحال وفي الاتفاقيات، فاللغة المستخدمة هي الفرنسية للحفاظ عليها من الإنكليزية - العولمة، وفي الراهن سيطرت اللغة الإنكليزية على الإنتاج اللغوي والثقافي، وغدت اللغة العالمية في الاتفاقيات الرسمية والشعبية وحتى في الحياة اليومية العادية يمارسها الشاب العربي خاصة وبكثرة، وكأنه استغنى عن اللغة العربية وغدت هي البديل.

وقد يكون هناك لغة مهيمنة تقوم بممارسة ضغوط على الوظائف الاجتماعية التي تؤديها لغة أخرى، فيقول نلده (Nelde) من أن أي اتصال لغوي هو مصدر محتمل لنشوب النزاعات، فمثلا اللغة الصربية (مهيمنة) مارست ضغوطاً في يوغسلافيا، على غيرها من لغات الأقليات، وهذه اللغة لا منازع لها، وهي التي تهيئ الأرضية السليمة لكل مواطن يوغسلافي من الذين يتحدثونها، لأن يتسلق السلم الاجتماعي.

لكن هيمنة هذه اللغة الصربية (الكولونيالية) وسمعتها تشوشها في وعي ألبان الكوسوفو، بعد أن تحولت الألبانية إلى محرك رمزي للمقاومة ضد السياسة القمعية وغدا لها هوية ذاتية، وأصبحت اللغة الصربية (لغة الأقلية مع كثرة عددهم) والألبان الأغلبية (10)، وأدى هذا إلى صراع بين الثقافات واللغات والهويات.

فلا تكتمل الهوية الثقافية ولا تبرز خصوصيتها الحضارية ولا تغدو هوية ممتلئة قادرة على نشدان العالمية على الأخذ، والعطاء إلا إذا تجسدت مرجعيتها في كيان شخص تتطابق فيه ثلاثة عناصر: الوطن، والأمة والدولة، فأي مس بهؤلاء هو مس بالهوية الثقافية والعكس صحيح كما يقول الجابري.(11)

وهذا يشكل أزمة هوية ويرى (تركي الحمد) أن هذه المشكلة جوهرية، والتي قد لا نحسها مباشرة، ولكنها مرافقة لنا في كل نواحي الحياة العقلية والعملية في آن واحد، مرافقة لنا على مستوى تنظير المنظرين المجرد وفي القرارات السياسية المهمة في التعاملات الاجتماعية وفي علاقة الفرد بالفرد في الجماعة الواحدة، والجماعة بالجماعة في الدولة الواحدة، والدولة بالدولة في الأمة الواحدة، أو ما يفترض أنه أمة واحدة في ظل أزمة الهوية المتحدث عنها، إن (الأنا) والـ(نحن)، الـ(هو) والـ(هم) كل ذلك ينتمي إلى جوهر واحد وينطلق من منطلق واحد ألا وهو "الهوية" و"الذاتية" سواء أكان ذلك على مستوى فردي شخصي أو مستوى جماعي اجتماعي(12)، ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام وإنما وجدت وتوجد وستوجد ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، وبتداخل إرادي من أهلها على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة، وهذه الثقافات قد يكون منها ما يميل إلى الانغلاق والانكماش ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع وقد يكون هناك ثقافات تنكمش أحيانا وتنتشر أحيانا.(13)

فأزمة الهوية ماتزال قائمة في الوطن العربي كما يقول (علي محافظة) وتتشكل بنقاط منها:-

- عجز العرب عن بناء الدولة الحديثة، والمقصود بها دولة القانون التي يتمتع بها المواطن بحقوقه ويلتزم بواجباته.

- استمرار الاستبداد السياسي في الوطن العربي وهذا الاستبداد هو ما يدفع مختلف الفئات الاجتماعية إلى الشعور بالظلم وعند ذلك تظهر أزمة الهوية(14)، ويعرض نقاط عدة تتشكل في مجملها نحو عجز الدولة العربية عن بناء دولة حديثة مترابطة الانتماءات بعيدا عن الولاءات الضيقة، ووجود الأجنبي وتدخله في السياسات الداخلية والتبعية الفكرية، كل هذه تشكل أزمة هوية.

فخطاب الهوية - في رأي من يدعو للعالمية وتجاوز الذات - هو خطاب انغلاق على الذات وبالتالي هو متخلف وسلبي، والانغلاق على الذات مناقض/ منافٍ لمنحى التاريخ، فنحن الآن في طريقنا إلى العولمة/ القرية الصغيرة وهذا يحتاج إلى انفتاحية على العالم لا انغلاقية وإن نخرج من العقائدية الضيقة للهوية ولمفهومها، وما تريده هذه المنظومات هي توحيد العالم، وهذا يهدد مسألة الهوية؛ فالهوية ميزة كل شعب لها تاريخها وثقافتها ولغتها ومعتقدها الخاص بها، ويرى (برهان غليون) أن باستطاعتنا الحفاظ على هذه الهوية أو أن الشعوب تشعر بالحاجة لتبني لنفسها في هذا العالم الواحد(العولمة) شخصية وكياناً متميزا، أي أن تعيد النظر في دورها ومقاصدها واستراتيجيتها وغاياتها، وليست أزمة الهوية شيئاً آخر سوى إعادة نظر الجماعة الكبرى في وصفها التاريخي، والعالمي، وتحديد أهدافها ومكانتها ووظيفتها الخاصة وتوجهاتها العميقة فيه فتوحيد العالم لا يلغي خصوصية الوظائف التي ينطوي عليها عمل كل جماعة ولكنه لا يتحقق إلا من خلال تعيينها (15)، فاللغة هي السبيل القوي للحفاظ والثبات على المشاركة في الجماعة وعلى الهوية الخاصة بكل فرد، ويورد (ر.ل.تراسك) مثالاً على أن الحفاظ على اللغة حفاظ للهوية بأن هناك سباكاً يستخدم لغة خاصة بطبقته وحين التخلي عن هذه اللغة وتناول لغة أخرى ليست من طبقته يعني هذا التخلي عن لغته وعن هويته، وكأنه يقول: "لم أعد واحداً من جماعتكم" لذا تعد اللغة أداة بالغة القوة للإعلان عن هوية شخص ما والحفاظ عليها(16). وتعدد اللغات في العالم ليس واقعاً حتمياً علينا العيش معه، بل هو أداة للهوية الإنسانية لا يمكن الاستغناء عنها من أجل مواجهة متطلبات الثقافة المحلية والمحافظة على السلوك الاجتماعي وجعله يؤدي وظائفه تحت مختلف الظروف الاجتماعية، والتقليل من تعدد اللغات يؤدي إلى التقليل من إقامة جماعة إنسانية ذات صبغة خاصة بهم (17)، فالعولمة متحققة في الهيمنة الحضارية والتبعية الثقافية؛ وتبعية الأطراف للمركز، تجميعا لقوى المركز وتفتيتاً لقوى الأطراف.

فتقع الهوية ضمن سيطرة مجموعة من المنظومات التي يفرضها الآخر عليها، فالهوية الآن متزعزعة في نفوس الكثير من الناس العامة والخاصة منهم (الصفوة) بسبب ما يعتري العالم من تبعية وهيمنة ونشر لقيم الغرب وعاداته وتقاليده وهويته، وتبقى الهوية ضحية هذه المنظومات الجديدة التي طرأت، فكل مركز قوي يحاول أن يتبعه الجميع في مساره ومركز القوى الآن بيد الغرب بفضل العولمة، ويحاول البعض الدفاع عن الهويات من خلال ردة فعل عكسية بالتمسك بالأصالة والابتعاد عما ينتجه الغرب من منطقة الاستهلاك إلى منطقة إبداع، لكن لا يعني هذا الانغلاق على الذات ورفض الغير وقد أطلق عليه (حسن حنفي) تصحيح الخطأ بخطأ ومجموع الخطأين لا يكوِّن صوابا، بل لا بد من إعادة بناء الموروث القديم المكون الرئيسي للثقافة الوطنية بحيث تزال معوقاته وتستقر عوامل تقدمه، ويتم ذلك عن طريق تجديد لغته من اللغة المنغلقة وإلى اللغة المفتوحة، والحفاظ على الخصوصيات ولا تعني الانغلاق والتقليد والانكفاء على الذات واستبعاد الآخر والخوف من العصر، إنما البداية بالأنا قبل الآخر، وبالقريب قبل البعيد، وبالموروث قبل الوافد(18)، ويتطلب الدفاع عن الهوية كسر حدة الانبهار بالغرب، ومقاومة قوة جذبه، والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية، ويضفي هذا إلى قدرة الأنا على الإبداع والتفاعل.

وبقدر ما تعني العولمة الهيمنة اللغوية الثقافية الأميركية عبر فرض النموذج الثقافي الكوني الأميركي على الأمم والقوميات ومنها الأمة العربية، بقدر ما تعني اجتثاث الثقافة العربية وتغييبها وإحلال الثقافة الأميركية محلها، بصرف النظر عن أساسها ومرجعياتها التي ليس لها أية علاقة بالهوية القومية للأمة العربية ولتاريخ الصراع الحضاري العربي الإسلامي مع العالم الغربي، ويقوم بعض الباحثين والدارسين برفض النموذج الغربي، ومواجهته وعدم الانسلاخ عن الهوية(19)، فالخوف والصراع مع العولمة والأنظمة الجديدة المطروحة والتي يروج لها من قبل منتجيها تدل على الخوف على الهوية القومية وإدراك المخاطر التي ستقع على الخصوصية الثقافية العربية.

______________________

هوامش:

1. ينظر فيصل الحفيان: اللغة والهوية، إشكاليات المفاهيم وجدلية العلاقات

2. ابن خلدون: المقدمة، الدار التونسية، 1984، ص258-259

3.ابن خلدون: المقدمة، 1/457

4. ينظر المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون جامعة فيلادلفيا: العولمة والهوية، منشورات جامعة فيلادلفيا، ط1، 1999، بحث حسن حنفي: الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، ص37-38

5.ينظر روبرت فليبسون: الهيمنة اللغوية، ت. سعد بن هادي الحشاش، جامعة الملك سعود للنشر العلمي، ط1، 2007، ص8-9

6. روبرت فليبسون: الهيمنة اللغوية، ص85-86

7.روبرت فليبسون: الهيمنة اللغوية، ص226

8.عيسى برهومة ووليد العناتي: اللغة العربية وأسئلة العصر، دار الشروق، ط1، 2007، ص181

9.روبرت فليبسون: الهيمنة اللغوية، ص49-50

10. ينظر هارالد هارمان: عالم بابلي، تاريخ اللغات ومستقبلها، ت. سامي شمعون، المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، قطر، ط1، 2006، ص328-329

11. محمد عابد الجابري: العولمة والهوية الثقافية، ص15-16

12. ينظر تركي الحمد: الثقافة العربية، ص195-197

13.الجابري: العولمة والهوية الثقافية، ص14

14.حوار الشهر مع أحمد صدقي الدجاني، حاوره علي محافظة، الأمة والهوية، مؤسسة عبدالحميد شومان، ص25-27

15. مجموعة مؤلفين: تساؤلات حول الهوية العربية، دار بدايات، ط1، 2008، بحث برهان غليون: أزمة الهوية، ص102-105

16.ينظر تراسك: أساسيات اللغة، ت. رانيا إبراهيم يوسف، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، ع381، ط1، 2002، ص96-97، و190-191

17. هارالد هارمان: عالم بابلي، تاريخ اللغات ومستقبلها، ص46

18.ينظر المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب جامعة فيلادلفيا: العولمة والهوية، ص33-37

19.للمزيد ينظر حسين علوان حسين: العولمة والثقافة العربية، ص119