"يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ"

 

د. عماد الراعوش

هذه الآية والآيات التي تليها من سورة البقرة تتحدث عن صيام رمضان من حيث حكمه وحكمته وكيفيته، واللافت للنظر أن الحديث عن الصيام وعن رمضان لم يرد في القرآن إلا في هذا الموضع، على الرغم من أهميته فهو ركن من أركان الإسلام، وهو نصف الصبر والصبر شطر الإيمان، وهو لله خاصة دون سائر العبادات، قال صلى الله عليه وسلم: " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام, فإنه لي وأنا أجزي به" (رواه البخاري).

اضافة اعلان

لذا قد يخطر على بال المرء أن يكون مقدار حديث القرآن عن الصيام بقدر أهميته ومكانته في الدين, لأن الغالب أن يتحدث المرء عن أي موضوع بقدر ما يهتم به. لكن أمر القرآن مع الصيام مخالف لهذه القاعدة, ذلك لأن تلك القاعدة إنما تطبق حيثما يكون الأمر مظنة النسيان أو التجاهل أو الترك أو التقصير، والصيام ليس كذلك فهو فريضة عامة لكل الناس معظمة معروفة مألوفة مرغوبة عندهم جميعا, يقبل عليها الكبير والصغير.. الغني والفقير، ولما كان حال الصيام هذا أغنى عن كثرة التذكير والتأكيد.

هذا الموضع الوحيد الذي تحدث فيه القرآن عن صيام رمضان بدأ بنداء التكريم والتحبيب "يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ" وهو نداء كثر في القرآن المدني, واختص بخطاب المؤمنين بقضايا التشريعات التعبدية ومنها الصيام، لأن مثل هذه القضايا إنما يخاطب فيها المؤمنون في المجتمع الإسلامي الذي يمكن فيه القيام بهذه التشريعات التعبدية، وذلك لم يتهيأ إلا في المدينة.

 والنداء بصفة الإيمان فيه تكريم وتحبيب بقدر ما تحمله هذه الصفة من التكريم والتحبيب، والقصد من خطاب المؤمنين بهذا النداء بهذه الصفة الترغيب بالصيام والحث عليه من خلال تذكير العبد بأنه مؤمن، والإيمان يعني الاعتقاد الجازم بأن كل ما شرعه الله فيه الخير للعبد في دنياه وآخرته، له ولمجتمعه، وهذا شأن الصيام. فإذا أدرك العبد ذلك أقدم على الصيام بنفس قوية تقهر الشهوات واللذات، صابرة على مشاق الصيام وسائر العبادات.

 كما أن في هذا النداء شهادة من الله بأن المخاطب حقق منزلة عالية هي منزلة الإيمان، واستحق بذلك أن يدخل في زمرة المؤمنين، وأصبح جديرا بالقيام بهذا التكليف، وأي شهادة أعظم من هذه الشهادة.. شهادة للعبد بأنه بهذه الصفة قادر على الصيام وأعبائه، إن هذه الشهادة تدفع العبد لأن يتلقى أمر الصيام سمعا وطاعة.. حبا ورضا، ليكون عند حسن الظن، ولئلا يخيِّب الأمل.

 وهذا النداء بصيغة الجمع يذكر العبد بأنه داخل في هذا الخطاب ضمن زمرة إخوانه المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم, عندها يحس بأنه ليس وحيدا على هذا الدرب بل معه سائر المؤمنين، يستمد منهم قوة تعينه على تحمل أعباء الصيام ومشاقه، فإذا أحس بالجوع والعطش ومالت نفسه إلى اللذات، ونظر حوله فوجد كل من حوله صغارا وكبارا صابرين محتسبين، قوي في نفسه خلق الصبر على ترك العادة، وروح المنافسة في أداء العبادة، ونازع الخجل من أن يكون أضعف من غيره.

والخطاب بهذه الصيغة يهون أمر الصيام رغم ما فيه من صعوبة، لأن الصعب إذا عم سهل، حتى البلوى إذا عمت هانت.

ويشير كذلك إلى أن الصيام عبادة جماعية، فالمسلمون يصومون جميعا في شهر واحد، وفي كل يوم يمسكون في وقت واحد, ويفطرون في وقت واحد، وهذا يضفي على المجتمع الإسلامي حالة من الوحدة والتماسك.

يلفت هذا الخطاب بهذه الصيغة إلى أنه ينبغي أن يظهر لهذه الشهر الفضيل سمت جماعي ومظهر اجتماعي خاص، بحيث يشعر المرء وهو في ديار الإسلام بالسمت العام الذي يضفيه الصيام على المجتمع بأسره، ويحس بأن رمضان شهر ليس كسائر الشهور بل له سمت خاص يبدو واضحا على مظهر الناس وسلوكهم, في بيوتهم ومساجدهم وأماكنهم العامة، في ليلهم ونهارهم, يبدو هذا السمت على كافة المسلمين حتى المفطرين من أصحاب الأعذار لأن السنة لهؤلاء أن يمسكوا أو أن يستتروا في فطرهم.

أما قوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ" ففيه دلالة بليغة على أهمية الصيام, من خلال التعبير بلفظ كتب الذي يستخدم في القرآن مع الأمور ذات الشأن العظيم، كما في الصلاة " إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابا موقوتا"، والقتال في سبيل الله " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ"، والقصاص " يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى".

وأصل الكتابة نقش الحروف على حَجَر أَوْ رَقِّ أو قماش، ولما كان النقش يراد منه توثيق ما نقش، بإثباته وحفظه أطلق لفظ كُتِب على معنى حَقَّ وثبت، وعليه يكون معنى الكلام حق عليكم الصيام وثبت، ووثق وحفظ, كما لو كان مكتوبا، فليس لأحد مهما طال الزمان أن ينكره أو يبدله، وعلى هذا يكون استعمال لفظ كتب استعمالا مجازيا، غير أن هنالك من قال إن لفظ كتب مستعمل على الحقيقة والمراد كتب عليكم في اللوح المحفوظ، وهو قول محتمل، وعلى كلا القولين فإن في استخدام لفظ كتب دلالة على عظم شأن الصيام، وعلى كونه عبادة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.

دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن