أوطان بديلة

تأخذك المدينة إلى ساحاتها كي تكشف أسرار جدائلها أمامك بلا خجل، فتدخل القصباء موهوما بالاختلاء إلى النفس، غير أن وهمك يتبدد في الحال حين تصافحك وجوه مألوفة ياما اختبرت معها ليالي عمان بجميع فصولها.اضافة اعلان
ها هنا أصدقاء عديدون اتخذوا من الغربة سلما للبقاء على قيد الأمل. غامروا بوداع عمان من أجل هامش قليل من الحظ.
في ليل الشارقة، يتجمعون في القصباء أو على الواجهة البحرية، محاولين استدراك ما فاتهم من حياة كثيرة وهم منهمكون بترتيب أولويات فرضت عليهم خلال مشوارهم مع الحياة والحب والاغتراب، فيمارسون حياتهم بطريقة تشي بأنها طبيعية، ويتعاطون مع الأمور بما يشبه الاستسلام، محتفظين بـ”أسرار” خجولة تطل برأسها أحيانا، لكن يتم قمعها.
في محطات الاغتراب، يحاولون أن يرسموا أوطانا بديلة بعلاقات جديدة يستعيضون بها عما تركوه خلفهم من حيوات، غير أنهم لا ينسون عمان التي احتضنتهم أحياؤها وحواريها ومخيماتها. يتذكرون وجوه جميع صبايا الوحدات وعبدون وأبو نصير وبشرى وسال، ويأملون في أن لا يكون الأوان قد فات لكي يخرجوا من أدراجهم دفاتر قديمة سطروا فيها مخططات حياة يأملون في أن يعيشوها يوما ما.
ترى، كيف خسرنا كل هؤلاء؟
حين تغيب العدالة وتكافؤ الفرص والتنافس الحر، يكون خيرة الشباب هم الضحية الأولى، خصوصا إذا كانوا لا يملكون سوى مؤهلاتهم الإبداعية، التي كثيرا ما تكون غير كافية لفوزهم في أي منصب أو مركز. تلك هي الحياة الحقيقية، وليس ما نسمعه من تصريحات لمسؤولين يحاولون أن يوهمونا أن الحياة “قمرة وربيع”.
في الصحف والمؤسسات الإعلامية والجامعات والشركات الكبرى ومراكز الدراسات والتدريب، ثمة أردنيون لم يستطع الوطن استيعابهم، فخرجوا مكرهين يتمثلون وداعية “ابن زريق” لبغداده التي لم يبعده عنها سوى ظلم كبير.
ما نزال حتى اليوم، مجتمعا طاردا للكفاءات، وغير قادر على أن يضع منهجية حقيقية لاستيعاب تلك الكفاءات بعيدا عن “المعايير” الدارجة التي لا دخل لها بالكفاءة، لا من قريب ولا من بعيد.
في بلاد الاغتراب الكثيرة، يسطر الأردنيون حكايات جميلة للنجاح، متجاوزين أمراض “المظلومية” التي يحملها كثيرون كما لو أنها “قميص عثمان”، وضاربين الصفح عن سياسات تجاهلت وجودهم طويلا، ولا تتذكرهم سوى في قوائم ضيقة لتعداد تحويلاتهم الشهرية. إنهم يستحقون أكثر من تلك القوائم الظالمة.
في ليل الشارقة وعجمان وغيرهما، يجلس الأصدقاء لـ”لم شمل” صغير، والتباحث في آخر أخبار الوطن. يدركون أن غربتهم قد تطول كثيرا، وأن إهمالهم قد يستمر، ولكنهم لا يرمون الأردن بغير الورد والحب.
وفي الحسبان، أن ضريبة الغربة فادحة، والمنافع القليلة التي يتحصلون عليها لا تعوضهم عن اختبار دهشة حبو أبنائهم للمرة الأولى أو تلفظهم للكلمة الأولى، أو الخطوة الأولى التي درجوها في الطريق.
لكن الرهبة التي تعيش في داخلهم والتي يرفضون الإفصاح عنها بسهولة، هي خشيتهم من أن تظل مشاريعهم الحياتية حبيسة أدراج مقفلة، تلفها العتمة في ليل لا يرون له نهاية.