الأزمة المالية العالمية والدروس المستفادة:(1) النماذج الاقتصادية والقدرة على التنبؤ

الدكتور عبدالحليم محيسن*

 

تزخر وسائل الإعلام هذه الأيام بمناقشة الدروس المستفادة من الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد العالمي قبل عقد من الزمان،  ومدى احتمالية أن تعصف به أزمة أخرى مماثلة مستقبلا. 

اضافة اعلان

في هذا المقال سنركز على الجدل الدائر بين بعض الاقتصاديين، وربما عامة الناس، حول فشل المنظمات الاقتصادية الدولية، وما تملكه من نماذج اقتصادية معقدة، وخبراء ومختصين في التنبؤ بالأزمة قبل حدوثها، فهل الخلل في هذه النماذج والخبراء؟، أم أن المشكلة تكمن في موضع آخر؟

شخصيا، لست من المتيقنين جدا من جدوى النماذج الاقتصادية في ايجاد الحلول والسياسات الاقتصادية الناجعة والفعالة، والا تحققت المقولة المصرية العامية المشهورة "كان محدش غلب" ولعمّ على الناس الخير والسرور،  وما اجتهد الناس في ايجاد أفضل الحلول لمواجهة عظائم الأمور.  فعلم الاقتصاد بالرغم من المحاولات المستميتة لوضعه في نماذج وقوالب رياضية معقدة، هو علم إنساني يرتبط بالسلوك الفردي والجمعي للإنسان الذي يصعب قولبته وتأطيره في معادلات ونماذج صماء لا تراعي النوازع الإنسانية والشخصية والفردية، والتي لا يمكن في كثير من الأحيان توقعها والتنبؤ بها. كما أن هذه النماذج تبنى على اساس فرضية "الرشد الاقتصادي" الذي أثبت العالم رتشارد ثايلر الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد أخيرا في نظريته حول "الاقتصاد السلوكي" عدم صحتها، فالأفراد قد يتخذون في اوقات عديدة قرارات اقتصادية غير رشيدة وحكيمة تزيد من صعوبة التنبؤ بتوجهاتهم الاقتصادية المستقبلية.

ومن ناجية أخرى، أتفق مع الرأي القائل إن كلمة "أزمة" تعني بالضرورة عدم المقدرة على التنبؤ بها أو توقعها، وإلا لما سميت كذلك .... هذا من واقع المنطق العام الفطري. أما من الناحية الاقتصادية، فإن حدوث دورات اقتصادية بين صعود وهبوط، أو ما يطلق عليه اصطلاحا "الدورات الاقتصادية"، يعد من الخصائص البنيوية الثابتة للاقتصاد الرأسمالي القائم على الحرية الاقتصادية،  فلا مناص إذا من حدوث أزمة اقتصادية بين فترة وأخرى... لكن الاجتهاد والتحدي يكمن في مدى شدة هذه الدورة في حالة الهبوط وشموليتها وسرعة حدوثها ومدى امكانية تحولها الى أزمة مستفحلة وسرعة استجابتها للسياسات الاقتصادية العلاجية.

إن عدم تيقني من عدم مقدرة النماذج الاقتصادية على التنبؤ المستقبلي عموما، بالأزمات الاقتصادية والمالية على وجه الخصوص، لا يعني بالضرورة عدم ايماني بحاجتنا المطلقة لها، فهي قد تصلح لتفسير وتوضيح العلاقات بين عدد من المتغيرات الاقتصادية من الناحية التاريخية .... لكنها تملك امكانيات محدودة في التنبؤ بالمستقبل .... واختم بمقولة مشهورة لأحدهم ( لا أذكر اسمه في هذا المقام) أن الاقتصادي البارع هو الذي ينجح في تبرير عدم حدوث توقعاته ... وآخر يقول انه اذا اجتمع اقتصاديان لمناقشة قضية ما خرجوا بثلاثة آراء ... ففي النهاية الاقتصاد علم سلوك إنساني واجتماعي صرف.

*مستشار اقتصادي