الست..

لعل أحدهم، في زمن غابرٍ، خاطبها متوعدا: أشوف فيكِ يوم. ولعل الاحتفال بيوم المرأة العالمي ويوم حرية المرأة ومناسباتها، جاء تحقيقا لهذه النبوءة الشريرة، فقد نزلت المرأة تاريخياً من على صهوة  قيادة الحضارة، حيث كان المجتمع أمياً نسبة للأم، وحيث النسب وشجرة العائلة والثروة كلها تجتمع في حماها، وهي التي توزع العطايا والأدوار الاجتماعية وتقود صرح الحضارة. اضافة اعلان
اللغة أنثوية، فالحكمة مصدرٌ لغوي أنثوي، وكذلك الشجاعة والوطنية، أيضاً، وقبل اللغة، فإن الآلهة في الحضارات القديمة كانت أنثوية، حيث وقبل الديانات السماوية بقرون؛ أطلق قدماءُ المصريين على المرأة لقب "الست" تبجيلا وتعظيما لها، ورمزا للقوة والعزم، وحتى الآن تطلق هذه الكلمة؛ "الست"، في معرض التبجيل والاحترام لمكانة المرأة.
جميع الحضارات القديمة قدّست الأنثى اعترافا بدورها ومكانتها وعقلها، فكانت إيزيس آلهة الفراعنة، وأرتيمس آلهة اليونان، وعشاروت آلهة الفينيقيين، وعشتار آلهة البابليين، وأنانا آلهة سومر، وهي الحاكمة لجميع النواميس الإلهية ومقررة المصائر. لم تكن هناك بالضرورة "ستات" من لحم ودم تمثل هذه الإلهة، ولكنها رموز ثقافية حضارية تبين مكانة المرأة التي وصلت حد تقديسها في الحضارات القديمة، وهي مكانة تعزى لذات المرأة باعتبارها مصدر العطاء والاستمرار والحكمة.
نعم؛ "الست" مصدر الحكمة، فلم تكن مكانتها مقارنة مع إنجاز الرجل أو مكانته، بل كانت قيمتها في ذاتها تنبع، ليس فقط من إمكانيتها الجسدية باعتبارها مصدراً للتكاثر، بل من قدراتها الذهنية والعقلية باعتبارها مصدراً للحكمة والعدالة والعطاء.
لم يخرج العرب عن هذا السلوك الحضاري العام، فهذه زنوبيا ملكة العرب والبناء الحضاري، وتلك بلقيس ملكة سبأ التي ذكرت في القرآن الكريم، و"شقيلة" ملكة البترا في تلك الأزمان التي شهدت في عصرهن ازدهارا وحضارة ومدنية.
السؤال: ماذا حصل لمكانة المرأة الحضارية؟! كيف نزلت المرأة عن تلك المكانة؟! كيف تحولت من تلك المنزلة إلى أن تكون "نجسة بذاتها"؟! من بدل دلالة رمز الأنثى "الأفعى" بوصفها رمزا للتكاثر والتجدد، لتغييرها جلدها، إلى دلالة المكر والدسيسة والكيد؟ ماذا حصل، ومن أنزل "الست" عن عرشها؛ عرش الحكمة والعطاء، لتركن بعدها، فيما يسمى بالحضارات الحديثة، باعتبارها ضعيفة وناقصة القدرات العقلية والجسدية.
يوم المرأة العالمي، وغيره من أيام الاحتفاء بالمرأة، تعبير ضمني واعتراف بمؤامرة كونية وعمل مقصود لتغيير مكانة المرأة، وهو تكريس لصيغة دونية من المساواة الموهومة، لأنها تعتمد حقوقاً مادية أكثر منها عناية بمكانة المرأة ومفهومها في المجتمع، فبدل أن يكون العمل لإعادة مكانتها الذاتية والحضارية؛ فإن النضال اليوم قائم لمساواتها بالرجل.
لكن، هل يمثل الرجل نموذجا؟! الرجل الذي، من خلال اضطهاده، تحصل على إنجازات مادية قام بمأسستها في مؤسسات اجتماعية تكرس الاضطهاد وتراكم عليه، ولكن هذه الذات الذكورية ليست نموذجا حضارياً تتطلع إليه المرأة.
أقول هذا ولا أنكر أن الرجال قدموا إسهامات علمية وحضارية وإنسانية، ولكنني أتكلم عن النموذج العام والأصلي، والطبع، الذي توهم المرأة أنها تسعى للمساواة معه.
منذ قرون خلت، ومنذ تولي الرجل قيادة الحضارة الإنسانية، قدمت الذكورة نموذجا عدائياً عصبيا في أعمه، افتقر للحكمة والإيجابية، وصنع حروبا وغزوات تحت شعار قوته الجسدية، وإن اقترنت بضعف في قدراته العقلية والذهنية والنفسية، وهكذا خلدت الحضارة هولاكو، والإسكندر المقدوني، وفي زمننا الحاضر، نابليون، وهتلر، وإسحق شامير وغيرهم من القتلة العالميين.
يوم المرأة العالمي يوم مساواة بنموذج لا يمثل في ذاته نموذجا؛ بل هو في حاجة إلى مراجعة موضوعية ونفسية، ولهذا فإن نضال المرأة يجب أن يكون لإعادة مكانتها في الحضارة كرمز للحكمة والسلام وعمارة الأرض، وما يصحب ذلك من حقوق واعتراف كامل بإنسانيتها وذاتها، وإلى ذلك الحين سنظل نقول: عظمة على عظمة يا ست.