بين "داعش الإسلامي" و"داعش اليهودي"

منذ استفز المرحومان سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وغيرهما ممن جاء بعدهما واستمر على منهجهما بالنمط الفكري نفسه، المسلمين لنبذ جاهلية القرن العشرين، والعودة إلى الإسلام الصحيح الذي يدعي كل مسلم أنه يعرفه، والمسلمون والناس في بقية العالم يعانون أشد المعاناة من "الصحوة" أو "الغفوة" الكبرى التي انطلقت بعدهم، وبخاصة بعد هزيمة حزيران 1967 الكارثية. لأن هذه "الصحوة" (الغفوة) تحولت إلى إرهاب، أو إلى قتل أعمى للناس؛ المسلمين وغير المسلمين، باعتبارهم كفاراً أو مرتدين يعيقون قيام الدولة الإسلامية.اضافة اعلان
الإرهاب المنسوب للإسلام، وآخره تفجير الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء، وتفجيرات الضاحية الجنوبية في لبنان، وتفجيرات باريس المتزامنة، والتي تبناها تنظيم "داعش"، يثبت للعالم ما كان قد اتهمه به، وهو أن الإسلام قام بالسيف وليس بالدعوة والسماحة والرحمة كما نؤمن نحن كمسلمين. إن "داعش" وأخواته ومؤيديهم من المسلمين -وما أكثرهم- يفرحون بسرهم بهذه التفجيرات الدموية وينتشون، وإن شجبوها لساناً لا عقلاً وقلباً، على قاعدة العلاقات العامة.
وبما أن الإرهاب صار منهجاً استراتيجياً عند "داعش" وأخواته، كجبهة النصرة وبوكو حرام وشباب الصومال.. فإنها لا تستطيع التخلي عنه بالوعظ والإرشاد والخطاب المعاكس، وبخاصة الصادر عن رجال الدين والمؤسسات الدينية والإعلامية ذوي وذات الصلة، أو التعاون مع الحكومات أو الأنظمة المعادية لها. فلا يستطيع "داعش" وأخواته التخلي أو التراجع عن استراتيجية الإرهاب مهما كانت النتائج كارثية محلياً وإقليمياً وعالمياً، لأن التخلي أو التراجع يعني تصفيتها ذاتياً بعدما سبق السيف العذل.
وبما أن الجميع في بقية العالم ضد التنظيم ويطارده ويقصفه ليل نهار بالطائرات والصواريخ، فإن "داعش" يعيش في قلق دائم على البقاء، وفي خوف عميق من التصفية والفناء، فيلجأ إلى المزيد من الإرهاب كماً ونوعاً، لطرد القلق والخوف من النفوس. وكلما نجح في تفجير، ازداد شعوره بالاطمئنان، جنباً إلى جنب ازدياد قلقه من ردود الفعل أيضاً عليه. وهكذا يظل يعيش في حلقة مفرغة من القلق، والعالم كذلك؛ مما يستدعي تصفية التنظيم بحملة برية وجوية كاسحة ماسحة لأن قتلاه بالتفجيرات قد يفوقون قتلاه بالحملة.
لا يختلف "داعش اليهودي" عن "داعش الإسلامي" في الإرهاب؛ فالإرهاب في الحالتين ينبع من فهم خاص للدين. وكلاهما يعانيان قلقاً وجودياً. ومثلما يفتك "داعش الإسلامي" بالناس بالجملة والمفرق، يفتك "داعش اليهودي" بالفلسطينيين بالجملة والمفرق. وبينما يفجر "داعش الإسلامي" نفسه بالكفار والمرتدين في أي مكان وزمان ممكنين ما خلا إسرائيل، يفتك "داعش اليهودي" بالفلسطينيين "المختارين" فقط وأينما كانوا. وبينما "داعش" تنظيم أو عصابة أو مجموعة من الزعران الإرهابيين الذين لا يعترفون بأي قانون غير قانونهم، فإن "داعش اليهودي" دولة عضو بالأمم المتحدة، وإرهابها إرهاب دولة، ولكنها كداعش الإسلامي لا تعترف بأي قانون عندما يتعلق الأمر بتعاملها الإرهابي مع الفلسطينيين.
وبينما يتحالف العالم كله ضد "داعش الإسلامي"، لا يتحالف أحد مع أحد ضد "داعش اليهودي"، بحجة حقه في الدفاع عن نفسها (أوباما)، وإن كانت يقتل الأطفال الفلسطينيين ويسن قانوناً يسمح بمحاكمتهم كراشدين.
ويحتل "داعش الإسلامي" مناطق في سورية والعراق، ويغتصب "داعش اليهودي" فلسطين والجولان ويغير طبوغرافية المكان والسكان. إن لداعش الإسلامي رواية أو خطابا هو خطاب الجهاد (الإرهاب هنا) وتطبيق الإسلام الصحيح كما يفهمه، وإن لداعش اليهودي رواية أو خطابا هو رواية أو خطاب أرض إسرائيل الكاملة أو أرض الميعاد وتصفية الشعب الفلسطيني.
اللافت للانتباه هنا؛ ذلك الحب الخفي اللدود المتبادل بين "داعش الإسلامي" و"داعش اليهودي"، فداعش الإسلامي لا يفكر بفلسطين ولا بمناكفة "داعش اليهودي"، ففي جميع إعلانات الأول عن تبنيه للتفجيرات القاتلة، لم يشر إلى قضية فلسطين ولم يدع إلى تحريرها. و"داعش اليهودي" لا يفكر بدولة "داعش الإسلامي" ولا يناكفها، لأن الإرهاب المشترك يجمعهما ويؤلف بينهما. إن "داعش اليهودي" يراقب "داعش الإسلامي" بإعجاب وتصفيق حار، لأنه يزيح انتباه العالم عما يقوم به الصهاينة من فتك بالفلسطينيين وتوسيع للاستيطان في أرضهم وإحكام الحصار على قطاع غزة وابتزاز الأوروبيين به، وإلا لو رفعته عنهم سيهاجر نحو مليونا غزي مسلم إلى أوروبا ويزيدون الضغط الإسلامي عليها، وتفتت سورية والعراق وتتوقع منها المزيد وهو المطلوب الإسرائيلي الاستراتيجي الأول.