حق الترجمة..!

أخبرني صديق مترجم أنه راجع شركة كبيرة طلبت أحداً يترجمُ لها مئات الأوراق عن منتجاتها بدوام جزئي. وهناك، أخبره الذي قابله بأنه يستطيع ترجمة المادة هو بنفسه لو أراد، لكنه لا يفعل -لسبب ما! وعندما اطلع الصديق على المادة، وجدها معقدة وبالغة الاختصاص، حتى استغرقته ترجمة إحدى العينات ساعة تقريباً. ولدى الحديث عن الأجور، قالوا له إنهم سيدفعون نصف دينار عن ترجمة الورقة الواحدة. قالوا له إن ذلك أجر كبير، لأن هناك المئات من الأوراق. لكن ذلك يعني في الواقع أن الزميل لو عمل هناك أربع ساعات، وأنجز أربع أو خمس ورقات، فسيكون أجره دينارين أو دينارين ونصف الدينار عن نصف يوم عمل. أما أجره الحقيقي، فعلى الله، لأنّه سيدفع أكثر من "راتبه" لسيارتي الأجرة اللتين سيستقلهما من بيته إلى المكان والعودة (ليست عنده سيارة).اضافة اعلان
ذكّرني هذا التبخيس بقصة الصديق الخطّاط الذي طلب ربع دينار أجرة عن خط اسم كل مدعو على بطاقات عُرس. ونفخ صاحب البطاقات واستغلى، وسأل: "علام ربع دينار وأنت تصرف حبراً بفلس؟!". والسؤال: لماذا لم يوفّر صاحب البطاقات فلساته، ويخط الأسماء بخطه البديع؟! لماذا اعتقد بأن صنعة الخطاط وموهبته أرخص كثيراً من فرقة الزفة أو كعكة العرس وعلبة العصير؟ كيف فكر بأن جهد الخطاط الذي جمع الموهبة والتدريب الشاق، يستحق ديناراً عن ثلاثمائة بطاقة مثلاً (ثمن الحبر)؟ لماذا لم يقم المسؤول في الشركة بترجمة أوراقه ويوفر نصف ديناره؟
مسألة الاستهانة بالترجمة ليست فردية، وإنما ثقافية كما يبدو. وفي البال دائماً ما ذكره الدكتور جابر عصفور، رئيس المجلس المصري الأعلى للترجمة، من أن إسبانيا وحدها تترجم في العام الواحد قدر كل ما ترجمه العرب منذ أيام الخليفة المأمون وحتى اليوم. ذلك يفسر الهوة العريضة العميقة التي تفصل الثقافة العربية عن الثقافة الإنسانية، في قطيعة مع المعرفة تمارسها منطقة لم تعد بارعة في إنتاج معرفتها الخاصة أساساً. مع ذلك، يخالطنا إحساس بالتعالي المزوّر، باعتبار أننا ثقافة مكتفية بذاتها، تعطي الآخرين ولا تأخذ عنهم. ثم ننظر بين أيدينا، فنجد كل العلوم التي ندرسها، والإنسانيات، وحتى ما نعرفه عن أخبار العالم، هي في جلها نتاجات أجنبية تُرجمت إلى العربية. ولا يُعنى أحدٌ بتفكيك المصادرة، فيظل يُنظر إلى الترجمة -سوى لدى بعض النخبة- على أنها نشاط ثانوي فائض!
وإذن، كيف كان العرب سيعرفون نظرية داروين، واقتصاد كينز، وأفكار فرويد وماركس، لولا الترجمة؟ كيف كانوا سيقرأون شكسبير أو الأوديسة بلا ترجمة؟ كيف يعرفون ما قاله أوباما أمس عن الشرق الأوسط، لو لم يترجم لهم أحد ما قاله؟ وقبل ذلك كله: كيف كانت حضارة صدرالإسلام الخارجة من الصحراء والشعر ستفعل لو أنها لم تترجم أرسطو وأفلاطون، وأرخميدس وفيثاغوروس وإقليدس وأبوقراط؟ كيف كان الكندي والفارابي والرازي وابن الهيثم، وكل الأسماء الكبيرة في الطب والرياضيات والفلسفة، سيفعلون بغير الترجمة؟
حقّ الترجمة لا يختلف عن حقّ جل النتاجات الثقافية التي يُنظر إليها على أنها فائضة وبلا ثمن. أما ما هو الأساسي الضروري، فلا أحد يدري! لا بد أن العالَم "الآخر" مجنون حين يؤهل أبناءه في اللغات، ليطلعوه على ما يُكتب في الصين والهند وروسيا وبأي لغة يمكن التفكير فيها. لكن العالَم العربي المكتفي بفصاحته، لا يعنيه شيء من أمر هؤلاء -لا مَن يكونون ولا ما يُنتجون، سوى الهواتف الخلوية، ربما.
إذا كانت النظرة الفردية -على طريقة جماعة الشركة المذكورة- قاصرة عن تقدير حق الترجمة، فإن المؤسسات الرسمية والثقافية ينبغي أن تكون بخلاف ذلك. وقد تنبهت بعض الدول أو المؤسسات العربية إلى شأن الترجمة، فأقامت مشاريع غير ربحية لتمويل نشاطها، أحياناً بإخلاص وأحياناً للتباهي. ربما يجد بعض المخلصين هنا أيضاً مكاناً للترجمة في المشروع الوطني النهضوي، في جملة العناية بالثقافة، إذا كان ثمة عناية بذلك أصلاً. ربما تشعر الترجمة بأنها أكثر من جهد ليس له تعريف، رخيص الثمن؛ يريدونه، وإنما لا يقدرون حقّه!

[email protected]