كيف تنبأ جورج أورويل بالتحديات التي تواجهها الكتابة الآن

الروائي الإنجليزي الكبير جورج أورويل - (أرشيفية)
الروائي الإنجليزي الكبير جورج أورويل - (أرشيفية)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

ماشا جيسن* – (النيوروركر) 10/6/2018 

النص التالي مقتبس من محاضرة ألقِيت في إسبانيا، في مركز الثقافة في برشلونة، يوم 6 حزيران (يونيو) 2018، تكريماً ليوم جورج أورويل.

اضافة اعلان

*   *   *

بعض المقالات تكون بمثابة الرسائل التي تستشرف المستقبل. وتشكل مقالة جورج أورويل، "منع الأدب" "The Prevention of Literature" واحدة من هذه المقالات، والتي أود اليوم أن أرد عليها من العام 2018.

يقول أورويل في مقالته إن الشمولية تجعل الأدب مستحيلا. وبـ"الأدب"، يقصد كل أنواع الكتابة النثرية، من القصة الخيالية إلى الصحافية السياسية؛ ويقترح أن الشعر ربما يستطيع أن يتسلل من الشقوق. ويكتب أيضاً أن الأمر لا يقتصر على الأنظمة الشمولية أو البلدان الاستبدادية بمجملها فحسب، وإنما هناك شيء مثل "مجموعات من الناس الذين يعتنقون نظرة شمولية" –أو مجتمعات "الحقيقة الواحدة" من نوع ما. وهذه التكوينات مميتة للأدب هي أيضاً.

كان أورويل يكتب في العام 1946، خمس أو ست سنوات قبل أن تعر الأعمال الفكرية لحنة أردنت من جهة، وكارل فريديتش من جهة أخرى، تعريفات الاستبداد التي ما تزال تُستخدَم حتى اليوم. وكان عمل أورويل نفسه "1984"، الذي يوفر فهماً عميقاً للتوليتارية، والذي ما نزال نستحضره حتى اليوم، ما يزامل على بُعد بضع سنوات من الظهور أيضاً. كان أورويل بصدد عملية تخيل للشمولية –لم يكن قد عاش مطلقا في مجتمع شمولي، بطبيعة الحال.

تخيَّل أورويل خصلتين رئيسيتين للمجتمعات الشمولية: أولاهما الكذب، والأخرى هي ما سماه الفِصام. وكتب: "الكذب المنظم الذي تمارسه الدول الشمولية ليس، كما يُزعم في بعض الأحيان، وسيلة أو حيلة مؤقتة من نفس طبيعة الخداع العسكري. إنها شيء مندغم وجزء لا يتجزأ من الشمولية؛ شيء سوف يظل مستمرا حتى لو لم تعد معسكرات الاعتقال وقوات الشرطة السرية ضرورية". وقد تطلب الكذب دائما إعادة كتابة مستمرة للماضي من أجل احتواء الحاضر. وكتب أورويل: "يحدث هذا النوع من الأشياء في كل مكان، لكنه أكثر احتمالا لأن يقود إلى التزوير الصريح في المجتمعات التي يُسمح فيها بوجود رأي واحد فقط في أي لحظة معطاة. وتتطلب الشمولية، في الحقيقة، التغيير المتواصل للماضي، وربما تتطلب على المدى الطويل أيضا تقويض الإيمان بوجود الحقيقة الموضوعية نفسه".

ثم يذهب إلى تخيل أن "المجتمع الشمولي الذي يكون قد نجح في إدامة نفسه، ربما يقيم نظاما فكريا فصاميا للتفكير، والذي يتم فيه اعتناق قوانين الفطرة السليمة في الحياة اليومية وفي بعض العلوم البحتة، وإنما يمكن أن يتجاهل السياسي، والمؤرخ وعالم الاجتماع هذه القوانين".

كان أورويل محقا. فالأنظمة الشمولية تعتمد على الأكاذيب لأنها هي نفسها أكاذيب. ويجب أن يقبل الفرد في النظام الشمولي بها كحقيقة –لا يجب، في الحقيقة، أن يصدقها- وإنما أن يقبلها كأكاذيب وباعتبارها الحقيقة الوحيدة المتاحة في الوقت نفسه. وكما تنبأ أورويل، تقوم الأنظمة الشمولية مع الوقت بتدمير مفهوم الحقيقة ذاته، وإمكانية وجود الحقيقة ذاتها. وقد عرفت حنة آردنت هذا الوضع كواحد من تأثيرات الدعاية الاستبدادية: إنها تجعل كل شيء قابلا للتصور، لأنه "لا شيء حقيقيا" في نهاية المطاف.

وبالنسبة لما يُدعى "الفصام"، فقد أثبتت الخبرة هذا أيضاً. في العام 1989، بينما كانت أطول تجربة شمولية عاملة في العالم -اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية- على مقربة مما تبين أنه أفولها الأخير، أجرى عالم اجتماع عظيم اسمه يوري ليفادا وفريقه دراسة كبيرة عن المجتمع السوفياتي. وخلص إلى أن نفس تصور الإنسان السوفياتي لذاته اعتمد على التفاوض المستمر للتصورات الاستثنائية المتبادلة: فقد تماهى الفرد السوفياتي بقوة مع الدولة السوفياتية العظيمة وتجربتها الكبيرة، ومع ذلك شعر بأنه غير مهم هو في ذاته؛ وكان يتعبد في مذبح الحداثة والتقدم، لكنه عاش مع ذلك في ظل ظروف من الفقر القسري، محروما غالبا من وسائل الراحة الحديثة التي أصبح حتى الفقراء في الغرب يأخذونها كمسلّمات؛ وكان يؤمن بالمساواة وينفر من الظلم الصريح، لكنه قبِلَ مع ذلك بالنظام الهرمي المتطرف والبنية الطبقية المتصلبة للمجتمع السوفياتي. وحتى يعيش في عالمه –ببساطة ليعمل يوما بيوم، ويوازن بين التصورات المتعارضة- كان على الشخص السوفياتي أن ينخرط في مفاوضات مستمرة. وفي روايته "1984"، تنبأ أورويل بهذا التفاوض، وسماه التفكير المزدوج doublethink. وسوف تتذكرون أنه "حتى فَهم التفكير المزدوج ينطوي على تفكير مزدوج". وقد دمر التفكير المزدوج العقل وسحق الروح، لكنه كان مع ذلك ضرورياً للبقاء. كان يقتُلُ بينما يُنقِذ، وهذا بدوره، أيضاً، تفكير مزدوج.

ولكن، ربما كانت ملاحظة أورويل الأكثر قيمة في هذه المقالة هي تلك التي تتعلق بعدم الاستقرار. وكتب: "الجديد في الشمولية، هي أن عقائدها ليست غير قابلة للطعن فحسب، وإنما غير مستقرة أيضا. ومع أنه يجب القبول بها مع الألم، لكنها من الناحية الأخرى تبقى عرضة دائما للتغيير في أي لحظة". وقد لاحظ أورويل سخط واختفاء البلاشفة البارزين وما ينتج عن ذلك من تعديلات في الروايات الرسمية للثورة –التغيير الذي لا ينتهي للمفوضين المختفين. وقالت آردنت أن عدم الاستقرار كان، في الحقيقة، هو الفكرة والغاية من عمليات التطهير: لم تكن قوة النظام تعتمد كثيراً على القضاء على رجال معينيين في لحظات معينة، وإنما اعتمدت على القدرة على القضاء على أي رجل في أي لحظة. وقد اعتمد البقاء على مدى حساسية المرء للقصص دائمة التغير وقدرته على قولبة نفسه وفقها.

ولكن، لماذا بالضبط اعتقد أوريل أن كل هذا مدمر للأدب؟ عرَّف أورويل الأدب بأنه نوع من الحوار –"محاولة المرء التأثير على وجهة نظر معاصريه عن طريق تسجيل التجربة". وأضاف أنه "ليس هناك شيء اسمه أدب غير سياسي بشكل أصيل، وخاصة في عصر مثل عصرنا، عندما تقع المخاوف، والكراهيات، والولاءات من النوع السياسي الصرف، قرب السطح من وعي الجميع". ويستطيع حتى محرَّم taboo واحد أن يمارس تأثيرا شالّا مقعِدا شاملا على العقل، لأن هناك دائما خطر أن أي فكرة تتم متابعتها بحرية ربما تؤدي إلى الفكر المحظور. ويترتب على ذلك أن يكون مناخ الشمولية مميتاً لأي نوع من كُتّاب النثر". ولنلاحظ أنه يتحدث مرة أخرى عن "مناخ" الشمولية: عن التجربة المعاشة أكثر من آلياتها. ويتبع ذلك أن الأثر المدمر لهذا الأدب، كما هو حال الكذبة الدائمة، يمكن أن يتجاوز في ديمومته إرهاب الدولة نفسه. وبطبيعة الحال، توجد المحرمات في كل مكان. لكن أورويل يلاحظ أن "الأدب ازدهر في بعض الأحيان في ظل أنظمة استبدادية". وعادة ما يكون اضطرار الكاتب إلى التكيف مع حالة عدم الاستقرار التي تفرضها الشمولية –اضطراره إلى تعديل نظرته العالمية باستمرار- هو الأمر له، أو للكتابة على الأقل.

يقيم أورويل تقييمه على حدسه الخاص، لكنه يعتمد أيضاً على ملاحظته أن القليل من الأدب الجدير بالملاحظة خرج من ألمانيا النازية أو روسيا السوفياتية. ومع ذلك، قد يظن المرء –منطقياً- أن السبب في ذلك هو الرقابة أو الخوف، وأن ثمة كتابة أفضل تم إنتاجها وأنما ترتب إبقاؤها مخفيّة. ومن المؤكد أن أورويل ما كان يمكن أن يعرف عن "قداس" آنا أخماتوفا، تلك الدورة الصغيرة من القصائد التي نظمتها عن حبس ابنها في الكولاغ. أو عن رواية فاسيلي غروسمان عن الحرب العالمية الثانية "الحياة والقدر"، التي لم يتم الكشف عن وجودها حتى سبعينيات القرن العشرين. كان هناك، في الحقيقة، أدب مخفي في ذلك الحين، بما فيه قصائد جرى تدمير مخطوطاتها بمجرد كتابتها تقريباً، وظلت حبيسة الذاكرة حتى جاء وقت أصبح بالإمكان فيه إخراجها إلى العلن. 

البعض من هذا العمل عظيم، وربما تبدو هذه العظَمة، للوهلة الأولى، وكأنها تقوض أطروحة أورويل. لكن أعمال الأدب العظيمة هي دائما معجزة، وهي في العادة متنافرة مع بيئتها، وهو ما قد يتيح لها بالتسامي عن الزمان -وبالترجمة، عن المكان. لكنني سأغامر بزعم أن أورويل لا يتحدث عن ذلك العمل غير القابل للتوقع المتعلق -إنتاج المخطوطات. إن ما يكون مفقودا في ظل الشمولية هو الأدب الجيد –بل وحتى الجيد بما يكفي. وربما تكون هذه الكتب شعبية بل -وربما تنال الجوائز أيضاً- قبل أن تُنسى سريعاً. إنها الكتب التي تصنع قوائم الأكثر مبيعاً. الكتب التي ستبدو غريبة، أو عفا عليها الزمن، أو في أحسن الأحوال، مجرد ثائق لحقبة أخرى بائدة في غضون بضعة عقود فحسب. وهذه أيضاً هي نفس تلك الكتب التي تسهِّل الحوار، والتي تخلق فضاءاً عقلياً عاماً، والتي تؤثر على وجهة نظر معاصري المرء. ومن دون هذه الكتب، فإن السياسة –مناقشة كيف نقطن مدينة أو بلداً أو كوكباً معاً- تصبح مستحيلة.

يقترح أورويل طريقة أخرى أيضاً تقتل بها الشمولية الكتابة. فيكتب: "النثر الجاد، يجب أن يتم تأليفه في عزلة". وتقوم الشمولية، كما كتبت آردنت في عملها الشهير، بإلغاء المسافة بين البشر، وتحولهم إلى "رجل واحد" ذي أبعاد هائلة. وبشكل منفصل، تحدثت آردنت عن وهم الدفء والقرب الذي تخلقه الشمولية. وتقوم المجتمعات الشمولية بتحشيد الجميع. وربما يتجمع أنصار النظام في الميدان الكبير، ويهتفون بدعمهم للقائد، بينما يتجمع المعارضون معاً في كتل صغيرة، والتي تكون دائماً تحت الحصار، ودائماً في نضال من أجل التمسك بجزء من الحقيقة القابلة للمعرفة. وهذا جهد مشرف، لكنه بعيد عن الممارسة التخيلية بقدر ما يمكن أن يكون أي شيء آخر بعيداً. لا أحد يستطيع أن يتخيل المستقبل –أو، إذا كان ذلك يهم، الحاضر أو الماضي- بينما تكون أسنانه مشدودة وعقله في عملية تركيز أحادي. ويقودني هذا إلى العبارة الأكثر شهرة في مقالة أورويل: "الخيال، مثل حيوانات برية معينة، لن يتناسل وهو في الأسر".

أود أن أزيد من تركيز الصورة قليلاً لأمنح سياقاً لهذه العبارة المشهورة:

"يكون الأدب محكوماً بالفشل إذا هلكت حرية التفكير. وهو ليس كذلك في أي بلد يحتفظ بهيكل شمولي فحسب؛ وإنما في أي كاتب يعتنق الشمولية، أو يجد أعذاراً للاضطهاد وتزوير الحقيقة، بحيث يدمر بذلك نفسه ككاتب... وما لم تدخل التلقائية عند نقطة أو أخرى، فإن الإبداع الأدبي يكون مستحيلاً، واللغة نفسها تصبح شيئاً مختلفاً كُليَّةً عما هي الآن، ربما نتعلم أن نفصل الإبداع الأدبي عن النزاهة الفكرية. في الوقت الحاضر، نعرف فقط أن الخيال، مثل حيوانات برية معينة، لن ينجب ويتناسل في الأسر".

 من المدهش أن ينهي أورويل هذه المقالة بملاحظة تنطوي على شيء من عدم اليقين. ويبدو رثاؤه للفقدان الممكن –والمحتمل- للخيال في حد ذاته تمريناً في التخيل. وهو السبب الذي يجعل من هذه المقالة عملاً أدبياً وعملاً سياسياً في الوقت نفسه.

إننا نعيش في زمن أصبح فيه الكذب المقصود، المنهجي، المزعزع للاستقرار –كذب الشمولية لمجرد الكذب، والكذب كطريقة لتأكيد السلطة السياسية أو الاستيلاء عليها- أصبح العامل المهيمن في الحياة العامة في روسيا، والولايات المتحدة، وبريطانيا العظمى، والكثير من دول العالم الأخرى. وعندما ننخرط مع الأكاذيب –الانخراط مع هذه الأكاذيب لا يمكن تجنبه، حتى أنه ضروري- فإننا نخسر الخيال. لكن الخيال يكون حيث تعيش الديمقراطية. إننا نتخيل الحاضر والماضي، ثم بعدئذ نتخيل المستقبل.

عندما تكون القيم، والمؤسسات، ومعظم الأشياء التي نعتبرها عزيزة بشأن السياسة، تحت الهجوم –وهي تحته بكل تأكيد- فإننا نجد أنفسنا نخوض الحرب الخيِّرة للحفاظ على الأشياء فقط كما هي. وهذا نقيض الخيال، ونقيض الأدب، وكما أعتقد، نقيض الديمقراطية. إن النضال للإبقاء على الأشياء كما هي يصبح حتماً معركة للتفكير في الأشياء والتحدث عنها بطرق معينة، إما دفاعياً أو وقائياً. وفي محاولتنا إنقاذ معنى الكلمات كما تتعلق بالحاضر، فإننا نمنع الكلمات والمفاهيم من التطور. والكلمات المُنتشلة سرعان ما تجف وتتكسر، ثم تسقط. وسوف نواجه المستقبل خالي الوفاض وبأيد فارغة، حين يتعلق الأمر باللغة؛ ونكون مصابين بالخرس في وجه المستقبل.

كنتُ أناضل مع هذه الأفكار في عملي الخاص. في الأسبوع الماضي، بينما أقوم بإعداد تقرير من ديترويت، وجدت نفسي أبحث في نموذج معماري لمزرعة حضَرية. كان الإطار العام للنموذج يتكون من مبانٍ رمادية –بلا نوافذ، في تجلٍّ رمزي. كانت هذه كتلاً افترض المخططون أنها ستُشترى، كما كان حال الكثير من أنحاء ديترويت، ويجري تطويرها –كما يُفترض- إلى مبانٍ بلا وجوه، والتي يمكن أن تكون في أي مكان ولا تنتمي إلى أي مكان. وأنا أعرف كيف أصف هذه المباني، ولدي اللغة لوصف ما يحدث في ديترويت. أستطيع أن أكتب عن انهيار الحكومة وتلاشي الإيمان بالديمقراطية. وأستطيع أن أكتب عن حرمان السكان الأميركين-الأفارقة، الذين يشكلون 86 في المائة من المدينة. وأستطيع أن أكتب عن صنع التجانس وخصخصة الفضاء العام، مصحوباً بتشكيل قوة أمن خاصة استأصلت الشرطة من الأحياء فيما يُسمى الانتعاش، وعن خط الترام الخاص للسكان العاملين بأجر في ديترويت، الذين يصادف أنهم في معظمهم من البيض. بل إنني أستطيع أن أكتب عما ليس موجودا هناك: البيوت التي اعتادت أن تكون هنا للعائلات، والمدارس، والمتاجر، وأماكن الموسيقى، ومشهد الحياة التي اعتادت أن تكون هنا. أستطيع أن أكتب عن تجارة شراء وتأمين الحطام، وتحويل حتى الفضاءات غير المشغولة إلى فضاءات خاصة، استباقياً. ويمكنني أن أكتب عن رجل أفريقي-أميركي في أواسط العمر، كان يتجول في شوارع حي غير مألوف له على ما يبدو، والذي لم تعد معظم ملامحه القديمة موجودة، باحثاً عن بناية يفترض أنه يحرسها. كان ذلك يومه الثاني في العمل مع شركة أمن خاصة.

ولكن، كيف أصف ما يقع في المركز من النموذج المعماري؟ كان شفافاً، مضاء بالوردي هنا وهناك، فاتحاً وإنما ليس نفاذاً تماماً. وقد لفَّ هذا الجزء من النموذج، المصنوع من الزجاج الشبكي، المنازل، والأشجار، والدفيئات الزراعية، وهياكل أخرى. بعض الموجود هناك كان حاضراً مسبقاً هناك، في الفضاء الفيزيائي الحقيقي الموصوف. وبعضه لم يكن هناك، كان يعمل بالطريقة التي يعمل بها الأدب: بالتصوير والتكبير، والإضاءة والتخيل. ولكن، ما الذي كنتُ أنظر إليه؟

كنتُ أنظر إلى نوع من المجتمع، نوع من القرابة، ونوع من التعاون. كنت أنظر إلى الترتيبات الاقتصادية التي لا تضم –أو تضم بقدر قليل جداً- العمل بأجر. كنت أنظر إلى بديل عن الملكية الخاصة. وبالنسبة لبعض المشاركين، كان بديلاً عن العائلة النووية. كنت أنظر إلى شيء بدا أنه موجود بالتوازي مع الرأسمالية. لكنني مع ذلك لم أمتلك الكلمات لأصف ما هو. كانت كل كلماتي تنتمي إلى عالم الكتل الرمادية حول محيط الشكل. أما الشيء نفسه، فقد استطعت أن أقول عنه فقط ما لم يكُنهُ.

ومع ذلك، أعتقد أن هذا هو عمل الكُتّاب في هذا الوقت: أن يصفوا ما لا نراه بعد، أو ما نراه، وإنما لا نستطيع أن نصفه بعد، وهي حالة لا يمكن تمييزها تقريباً عن عدم الرؤية نفسه.

أريد أن أعثر على طريقة لأصف عالماً يُقيَّم فيه الناس –ليس بما يُنتجون وإنما بمن يكونون –والذي لا تكون فيه الكرامة حالة عارضة.

أريد أن أعثر على طريقة لكي أصف المساواة الاقتصادية والاجتماعية كقيمة مركزية –عالماً تكون فيه اللامساواة، بذلك، في انكماش.

أريد العثور على طريقة لكي أصف الازدهار الذي لا يكون مرتبطاً بمراكمة رأس المال؛ أن أجد طريقة لأصف السعادة كسلعة عامة، والأزمة الشائعة الحالية للصحة العقلية بطريقة لا تتضمن تأطيرات ومعايير علم الأمراض، أو لغة "تصليح" الناس.

أريد طريقة لأصف عالَماً من دون الحدود كما عرفناها –عالماً لا تتمتع فيه الدول القومية بالتقدير أو تكون فيه متكلَّفة.

أن أجد طريقة لأصف تعليماً لا يتضمن تخزين الأطفال وتأديبهم؛ أن أعثر على طريقة لأصف عدالة لا يكون هدفها هو الانتقام، وإنما الاستعادة.

أن أجد طريقة لأصف سياسة تشاركية بشكل أصيل، والتي تعكس تعقُّد وتنوع الخبرة البشرية، والتي تتجنب التقسيمات التعسفية على أساس الخطوط الحزبية، وتؤكد التعاون حول غايات مشتركة.

أريد أن أعثر على طريقة دائمة التطور والتعقد لأكتب عن الجندر؛ أن أعثر على طرق لأصف القرابة التي ليست هي العائلة النووية أو المؤطرة بالعائلة النووية. أن أجد طرقاً لأحكي قصص الصداقة والمجتمع.

أن أعثر على طرق لوصف إنسانية تحمي كوكبها، ونفسها، والكائنات الأخرى التي تقطن الأرض معنا. وأن أجد الكلمات لوصف تعاون معقول ومسؤول بين الأحياء.

أن أجد طرقا لوصف فضاء عام يكون عاما فعلا ويمكن الوصول إليه، وأن أضمِّن في ذلك الفضاء الافتراضي للمشكلات الاجتماعية ووسائل الإعلام الأخرى.

وفوق كل شيء، أريد طريقة لأصف عالماً تكون فيه حالة الأمور ليست هي الحالة التي كانت عليها الأمور دائماً وستكون عليها دائماً، والتي لا يكون فيها الخيال تلقائياً فحسب، وإنما متمتعاً بالتقدير والرعاية.

أن أجد طريقة لأصف الكثير من الأشياء الأخرى التي هي صحيحة وحقيقية، وإنما ليست مرئية؛ مرئية وإنما لم يتم التحدث بها، وأشياء ليست موجودة وإنما يمكن أن توجد. كان أوريل قد كتب أنه، بالنسبة لكاتب القصة، تكون المشاعر الموضوعية بمثابة حقائق؛ ويرقى اضطرار المرء إلى تضليل ومراوغة تلك المشاعر في "مناخ شمولي" إلى مستوى "منع الأدب". وقد شكلت مفاهيم أورويل للشمولية الأساس لرواياته، التي شكلت بدورها الكثير من فهمنا الراهن للشمولية. وأنا أقترحُ أن الآمال الموضوعية هي أيضاً -لغايات الكتابة- بمثابة حقائق. هذه هي الحقائق المهددة بالخوف واليأس السائدين في سياستنا الحالية. وإذا ما أصر المرء على كتابة حقيقة هذه الآمال –أو، بالأحرى، إذا فعل كثيرا من الكُتاب هذا- فإن النتيجة ربما لا تكون أدباً عظيماً، والذي هو دائماً معجزة، لكنها سوف تكون تمريناً للخيال. وإذا كان ما يُكتب جيداً، أو جيداً بما يكفي، فإنه سيحرض الحوار. وربما ينطوي على نصف البصيرة التي انطوت عليها "1984".

*كاتبة من كوادر المجلة، كتبت العديد من الكتب، بما في ذلك، مؤخراً ، "المستقبل هو التاريخ: كيف استعادت الاستبدادية روسيا" ، الذي فاز بجائزة الكتاب الوطني في العام 2017.

*نشر هذا النص تحت عنوان: Our Columnists: How George Orwell Predicted the Challenge of Writing Today

[email protected]