محمد لافي: أكتب قصيدة موقف يتمظهر مرة في الذاتي وأخرى بالموضوعي

الشاعر محمد لافي-(تصوير: أمجد الطويل)
الشاعر محمد لافي-(تصوير: أمجد الطويل)

عزيزة علي

عمان - كانت بدايات الشاعر محمد لافي مع الشعر في العام 1962، عندما كان في الصف الثالث الإعدادي. ويقول صاحب "أفتح باباً للغزالة" في حواره مع "الغد" حول تجربته الشعرية: "استعرت من ابن جيران كتاب العروض السهل، وهو من المقرر المدرسي، حيث درست أوزان الشعر، فكانت أولى محاولاتي الشعرية الموزونة في العام 1962".اضافة اعلان
ويوضّح أنّه قبل ذلك كانت له محاولات خالية من الوزن، ولم تكن سوى خواطر إنشائية تحرص على التقيد بالقافية وحسب، مبيّناً أنّ البدايات الأكثر نضجا تبلورت في المرحلة الثانوية، أثناء دراسته في مدرسة عقبة جبر الثانوية. ويزيد "كنت وزميلان آخران نتناوب على إلقاء قصائدنا كل يوم اثنين صباحا في الطابور المدرسي".
في ذلك الوقت، اقترحت إدارة المدرسة على لافي طباعة أولى مجموعاته الشعرية، كان ذلك في العام 1965، لكنّ الاقتراح جاء متأخّراً "حيث أوشكنا على تقديم امتحان الشهادة الثانوية، وهكذا لم تتم طباعة المجموعة"، وفق لافي.
ويضيف "تشكّلت ملكتي الشعرية ممّا كنت أحفظه في تلك المرحلة من القصائد المقرّرة في المنهاج المدرسي، ومن الدواوين والمجموعات الشعرية التي تتيسر لي في مكتبة المدرسة، ومن قصص ألف ليلة وليلة، ومن الحكايات والسير الشعبية، كسيرة بني هلال، والزير سالم، تلك التي كان يرويها أخي الأكبر في جلسات السمر، التي تعقد في بيتنا خاصة في ليالي الشتاء، وعلى وهج كانون النار ودِلال القهوة السادة التي يتحلق حولهما أصدقاء أبي من الجيران والأقرباء، إضافة إلى قصص وقائع الحرب مع الهاجاناه وغيرها من العصابات الصهيونية في فلسطين، وصولاً إلى الخروج الكبير العام 1948".
وحول القنوط والأسى والشعور المطبق بالوحدة الذي يسيطر على أجواء صاحب "الانحدار من كهف الرقيم"، يقول "إنّ المعاناة والخسارات المتلاحقة، والسراب الذي لا ينتهي إلا بالموت، هذه هي البؤرة المركزية التي يبدأ منها، وينتهي فيها وجود الإنسان"، متابعاً أنّها "دورة الحياة منذ الصرخة الأولى على يد القابلة حتى القبر، إنّها مشاهد متلاحقة من امتدادات الغياب".
وفي السياق الخاص، يبيّن لافي أنّه حين تأتي لحظة الكتابة/ الإبداع، تمرّ مقاطع حياته كشريط سينمائي طويل: الوجوه، الأمكنة، الأحداث. ويقول "لا أدري عند ذلك أين يحط النص الشعري رحاله، ما الذي ينتقيه من هذه التراجيديا المتطاولة والمستمرة من الغيابات ومن الخسارات الموجهة والمفجعة في الذاتي والموضوعي".
ويؤشّر إلى حزنه الذاتي بـ"ضياع الحب الأول الذي ما يزال يحفر عميقا، ويترك بصمته التي لا تمحي على الروح، موت أبي وأمي بدون أن ألقي عليهما نظرة الوداع، وكذلك أختي الوحيدة، ثم رحيل زوجتي المبكر بمرض السرطان، خسارات الأصدقاء إما بتغييب الموت لهم، أو بخياناتهم لقناعاتهم، وثوابتهم الفكرية والسياسية، هزيمة المقاومة الفلسطينية وخروجها من بيروت، وما تلا ذلك من انشقاقات وقتال بين فصائلها، وانهيارات سياسية طالت حركة التحرر العربي برمتها".
ويضيف "أنا لا أدّعي أنّني المسيح الذي يحمل كل خطايا البشرية وهمومها، لكنّ هزيمة المشروع النضالي الفلسطيني كانت هزيمة شخصية لي، حيث ارتبطت وقائع حياتي الذاتية بهذا المشروع النضالي الوطني العام، الذي انخرطت فيه دون أدنى التفات لمتطلبات الذات".
ويتطرّق الحوار مع صاحب "مواويل على دروب الغربة" إلى سؤال إنْ كانت "قصيدة الخطاب" تخدم الشعر والقضية التي يعبّر عنها، فيصف المصطلحات النقدية التي تصنّف الشعر ضمن ثلاثة أقانيم هي: قصيدة الخطاب، وقصيدة الرؤيا، والقصيدة المشهدية، بأنّها "غير دقيقة علميا".
ويزيد "عندما نتحدّث عن القصيدة المستوية فنياً سنجد أنّها، تحتوي بهذا القدر أو ذاك، من تلك الأنواع الثلاثة -مثلاً- قصيدة مظفر النواب وهي تصنف ضمن قصيدة الخطاب". ثمّ يتساءل: "أليس تلك صورا فنية مبتكرة حد الدهشة أحيانا؟ ثم ألا تمتلك هذه القصيدة رؤيا وموقفا من الواقع؟".
ويعتقد لافي أنّه إذا كان هناك إصرار على تصنيف قصيدته ضمن قصيدة الخطاب، فإنه يكتب "قصيدة خطاب مختلفة، ومغايرة للسائد فيما يعرف بالقصيدة الملتزمة فلسطينيا وعربيا"، مبيِّناً أنّها خالية من الخطابة.
ويوضح "المباشرة ليست خطابة، علينا التفريق بينهما، علينا تحديد المصطلحات بدقة، فأجمل القصائد في ديوان الشعر العبري الحديث، ناهيك عن القديم، هي قصائد مباشرة، لكنّها ليست خطابية". ويؤكد لافي أنّ قصيدته خالية من الشعار السياسي، مفرّقاً بين قصيدة الموقف ومفهوم الشعار في النص الشعري.
ويشدّد لافي على أهمية تحديد المصطلح بدقة، فقصيدة الموقف تنبني على مجموعة من الرؤى والتصورات حيال الواقع المعيش، أما الشعار أو الشعارية فهو المطالبة بتحقيق مطلب ما سياسيا كان أم اقتصاديا أم اجتماعيا.. وغالبا ما ارتبط مفهوم الشعارية في القاموس النقدي بالخطابية. ويخلص إلى القول إنّ قصيدته "قصيدة موقف يتمظهر مرة في الذاتي وأخرى في الموضوعي".
ويؤكّد أنّ تصنيفات القصيدة العربية بين قصيدة الخطاب، والقصيدة المشهدية/ قصيدة الصورة، وقصيدة الرؤيا "ليست دقيقة علميا على المستوى النقدي". ويتابع في السياق ذاته إنّ "كلّ تجربة مستوية جماليا لها خصوصيتها النابعة من داخلها، وعلى الناقد أنْ يتعامل معها بعيداً عن إسقاطات المصطلحات النقدية المسبقة في الذهن".
وتحدّث لافي عن سبب التوقف أعواما طويلة بين قصيدة "الانحدار عن كهف الرقيم" و"قصيد الخروج"، مبيّناً أنّ ثمة مجموعة من القصائد بين "الانحدار" وقصيدة الخروج وضمنها القصيدة التي وصفها بـ"الأهم والأبرز" وهي "عذابات قاسم الخارجي"، التي قال إنّه كان لها صدى واسع عند إلقائها في مهرجان الشعر العربي الذي عقد على هامش المؤتمر الثاني عشر للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في دمشق العام 1978، أو 1979.
وتناول في الحوار "مبدأ النقد والنقد الذاتي" بوصفه "مجرد حبر على ورق". ويقول "كيف أنّ المقاتل في نظر كثيرٍ من القادة مجرد حبر على ورق، كيف أن المقاتل في نظر كثير من القادة مجرد (برغي) صغير في آلة التنظيم، وعلى أرض الواقع كيف يتحول خلاف تافه بين عضوين الى اقتتال بين تنظيمين تزهق فيه الأرواح بالمجان". ويتابع "عاينت ذلك كله وغيره فصدمت، وإن كنت لم أفقد قناعتي بضرورة وجود الثورة والحفاظ عليها وتصعيدها".
ويضيف لافي: "صدمت ولم أكتب شعرا، والقصائد القليلة التي كتبتها ونشرتها في بعض الصحف والدوريات الفلسطينية والعربية لم تعكس تجربتي الحياتية الجديدة، وقناعتي بوجوب كتابة نص شعري مغاير للسائد في القصيدة الفلسطينية الملتزمة، إلى المقاتل والمناضل المهمش، يصنع نماذجه الإنسانية الشعبية دون إعلاء قصدي ومتعمد لهذه النماذج، نص يتحول فيه الشعر الى دفتر مذكرات".
ويخلص إلى القول "لست شاعرا مكثرا في الكتابة كالآخرين، الذين يكتبون ما دامت دورتا المياه والكهرباء شغالتين، قد تمر فترات طويلة لا أكتب فيها أي جديد حتى إنني أشك -آنذاك- في كوني شاعرا، لكنني أثناء صمتي هذا اختزن كثيرا من مشاهداتي، وتجاربي الحياتية، وعندما تأتي لحظة الكتابة/ الشعر، أجدها طافية على السطح، ليكون بعضها موضوع القصيدة".

[email protected]