مرتزقة العولمة

مرتزقة تابعون لشركة بلاك ووتر يعاينون موقع انفجار قنبلة قرب السفارة الإيرانية في بغداد العام 2005 - (أرشيفية)
مرتزقة تابعون لشركة بلاك ووتر يعاينون موقع انفجار قنبلة قرب السفارة الإيرانية في بغداد العام 2005 - (أرشيفية)

د. سعود الشَرَفات*

غيرت سيرورة العولمة، خاصة على جانب التسارع الهائل في التكنولوجيا، من مقاربات الأمن في النظرية الدولية الكلاسيكية؛ سواء المقاربة الواقعية حول الأمن القومي، أو المقاربة العقلانية حول الأمن الدولي.اضافة اعلان
لقد أدّى التطور في ميكانزمات العولمة إلى التسارع التكنولوجيّ، من خلال التوسع في استخدام مخرجات التكنولوجيا الحديثة، ورخص كلفتها، وبالتالي سهولة الحصول عليها وتوفرها. الأمر الذي أدّى، في المحصلة، إلى نوع من فقدان السيطرة على كيفية وطرق استخدامها. إذ زوّدت هذه المخرجات الشبكات الإرهابية عبر العالم بأدوات إرهابية لا حصر لها، بحيث أصبحت (الشبكات الإرهابية) قادرة على ابتزاز الدول الكبرى، وخلقت مأزقاً لها في كيفية مكافحة الإرهاب، وكيفية التعاطي مع ميكانزمات العولمة التكنولوجية المتسارعة، وبالتالي طرح أسئلة كبرى حول مستقبل النظام العالمي ونقل التكنولوجيا في ظل العولمة.
في الوقت نفسه، فإن هذه المخرجات التكنولوجية زودت الأفراد، وجماعات المرتزقة، والجماعات والمؤسسات والشركات المتخطية للحدود، خاصة الشركات الأمنية الخاصة، بأدوات تكنولوجية ولوجستية أخطر وأكثر تعقيدا وتأثيرا.
وإذا كان خطر الجماعات الإرهابية المعاصرة ماثلا ومرعبا، وأربك الأمن الدولي والعالمي؛ فإن شركات الأمن الخاصة والمرتزقة باتت تشكل خطرا على بنية وسلوك الدول والجماعات، لا يقل في تأثيره عن الجماعات الإرهابية.
إن أهم التغيرات المعاصرة التي أفرزتها سيرورة العولمة، هي زيادة الأدوات التي بات يستخدمها القطاع الخاص من خلال الشركات الأمنية الخاصة الدولية، التي توظف متقاعدين أمنيين (أو مرتزقة)، وقطاعا واسعا من الأعمال والشركات العملاقة لصناعة الأسلحة في العالم، فيما أطلق عليه "المنتفعون من الحرب على الإرهاب".
ورغم أن أدوار القطاع الخاص في الحروب (وبخاصة المرتزقة) ليست جديدة في التاريخ، إلا أن اتجاهات هذه الظاهرة حالياً، لاسيما بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، هي الجديدة؛ إذ يربط كثير من المحللين والباحثين هذه الاتجاهات بظاهرة الإرهاب المعاصر وبالحرب العالمية على الإرهاب.
وقد بات من اليسير تلمس تدخل الدول باستخدام الشركات الأمنية الخاصة والمرتزقة، للقيام بعمليات إرهابية (مدعومة من الدولة) مضادة لإرهاب الشبكات، وبخاصة في أماكن مثل العراق، واليمن، وسورية، وليبيا، وأفغانستان، وأميركا اللاتينية.
وعلى سبيل المثال، وكما يتذكر البعض، فقد أدى مقتل أربعة أفراد من شركة "بلاك ووتر" في العام 2004، وهي من الشركات الكبرى العاملة في مجال الأمن في العراق، إلى اندلاع موجة عنيفة وواسعة من العمليات الإرهابية ضد القوات الأميركية في العراق، إثر اجتياحها لمدينة الفلوجة انتقاماً لمقتل هؤلاء الأربعة والتمثيل بهم.
لقد بات قطاع المرتزقة والشركات الخاصة هذا الأسرع نمواً في الاقتصاد العالمي، وتقدر قيمة الاستثمارات فيه بأكثر من 120 مليار دولار سنوياً، مع توزيع جغرافيّ عولميّ للعمليات يمتد إلى 50 بلداً على الأقل. فيما يؤكد خبراء أكاديميون بأن "معدل النمو في الصناعات الأمنية قد اتخذ شكل الظاهرة"، وأن أكبر مختبر يتغذى عليه هذا المؤشر ليصل إلى ذروة ازدهاره، هو الحرب في العراق، وسورية، واليمن، وأفغانستان، بما في ذلك التزايد المستمر لظاهرة الإرهاب والتطرف الديني.
إنّ الكثير من الخبراء والمحللين الأمنيين والأكاديميين (ومنهم الخبير الأمني في مؤسسة تشاثام هاوس- لندن، بوب آيريز)، يؤكدون أن بروز أهمية هذا القطاع يعود إلى سيرورة العولمة، وبروز ظاهرة الإرهاب المعاصر وتضاعف التهديدات العالمية، في حقبة شهدت ضغطا من ميكانزمات العولمة الاقتصادية وأيديولوجيا الليبرالية لإجراء خفض كبير في حجم الجيوش النظامية، في الوقت الذي ارتفعت فيه وتيرة الفوضى والإرهاب وغياب الأمن العالميّ. ومن ثم، جاءت هذه الأطراف الفاعلة من غير الدول لتشارك الشبكات الإرهابية الفضاء نفسه والبيئة نفسها، ألا وهي بيئة العولمة، فملأت الفراغ.
وأعتقد أن هذه العملية تعكس، بطرقٍ عدة، تلك الميول والاتجاهات الأوسع في إطار الاقتصاد العالمي، والاقتصاد السياسي العالمي، مع تحول البلدان في العالم من قطاعي الصناعة والزراعة إلى قطاع الخدمات وتعدد الموارد البشرية التي كان ينظر إليها (في النظريات الواقعية) بأنها احتياجات للدولة.
لقد أثر النمو المطرد في القطاع الأمني الخاص والمرتزقة على بقية الأطراف الفاعلة من غير الدول، وبخاصة المنظمات غير الحكومية، فقد أصبحت الوكالات الإنسانية العاملة في مناطق الحروب والأزمات تعول على الشركات الخاصة (أو المؤسسات العسكرية الخاصة) لمساعدتها في تنفيذ مهامها، في معظم مناطق الحروب؛ ابتداءً من أفغانستان وحتى اليمن. وأعتقد أن استمرار هذا الاتجاه قد يعني مستقبلاً صناعة مقابلة، هي "صناعة حفظ السلام" التي بدأت "جماعات الضغط" العالمية تعمل من أجل التوسع والاستثمار فيها.
ولعل المثير في الأمر أن معظم شركات الأمن الخاصة كادت تنهار (بشكل مؤقت) بعد انهيار الاتحاد السوفيتيّ وانتهاء الحرب الباردة في مطلع التسعينيات، إلا أن هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية غيّرت أميركا أكثر مما غيّرت العالم؛ من حيث سرعة تلك الهجمات، ونتائجها المتعددة، والاتجاهات الدولية الأساسية التي كانت جارية بالفعل. وجوهر هذه الاتجاهات هو: إعادة ترتيب استراتيجية لأوضاع أميركا الداخلية والخارجية كافة، ومن ضمنها كيفية التعاطي مع الشبكات الإرهابية؛ ثم فتح المزيد من ساحات الصراع والحرب بعد "الربيع العربي" في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسورية. الأمر الذي فتح المجال مرة أخرى لإعادة النشاط في المجمع العسكري وقطاع المرتزقة، وزوّد صناعة الأسلحة المتطورة المعتمدة على التكنولوجيا المعقدة بدماء جديدة لتحقيق مزيد من الأرباح الطائلة.
وهناك حقيقة تتمثل في أن معظم الشركات المستفيدة من الحرب العالمية على الإرهاب ومكافحة الإرهاب والتطرف الديني الآن في سورية والعراق وليبيا واليمن وأفغانستان، هي شركات السلاح والدفاع التي تعتمد على التكنولوجيا العالمية المعقدة، والتي أرى أنها لا تلائم مكافحة الجماعات الإرهابية بل مصممة للحروب التقليدية (دولة ضد دولة، وليس دولة ضد جماعة إرهابية)، ولذلك فهي تستنزف مبالغ مالية هائلة من موازنات الدول من دون فائدة، إلا فائدة تلك الشركات الخاصة ومديريها والجماعات المرتزقة فيها.
ولذلك أعتقد أن جهود الدول كافة في مكافحة التطرف الديني والإرهاب فشلت حتى الآن في القضاء على وحش الإرهاب.

*المدير العام لمركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب