تنمية سياسية و"زيادة"

أقر مسبقاً بأن هذا المقال مجرد أفكار مبعثرة: فقبل 15 عاماً أقيمت في الأردن وزارة هدفها المعلن بوضوح هو تشجيع الناس على السياسة، واسمها "وزارة التنمية السياسية"، وبدل أن تحلف الحكومات يميناً تؤكد فيه صدق نواياها، فقد جعلت أغلب وزراء تلك الوزارة من الحزبيين السابقين، وخاصة من اليساريين والقوميين، ولكن هؤلاء (أي اليساريين والقوميين) بدل أن يفرحوا بذلك، شعروا بالحرج على المستوى الكلي أو الجماعي، فكيف يكون اليساري أو القومي وزيرا في حكومات غير يسارية وغير قومية؟ لكن من المرجح أن يساريين وقوميين على المستوى الفردي، ككاتب هذه السطور مثلاً، شعروا بالسعادة لأنهم أضافوا وزيراً أو أكثر إلى قائمة معارفهم. في تلك الفترة، أي قبل 15 عاماً، كانت الحكومات والأحزاب تشكو من ركود الحياة السياسية ومن ضعف المشاركة فيها وخاصة في أوساط الشباب، وكانت الأحزاب تعزو السبب إلى الحكومات، فيما حاولت الأخيرة أن تنفي ذلك، فعمدت إلى تسهيل عقد المؤتمرات تحت عنوان دفع الناس للعمل السياسي على طريقتها، وانتشرت دورات تدريب للشباب على المناظرات والنقاش العام وعُممت فكرة برلمان الطلاب على الجامعات والمدارس، ودخلت جهات التمويل الدولية الأميركية والأوروبية ودعمت الكثير من النشاطات، كما أقيمت هيئات "وطنية" تحت عناوين مناسبة لبرامج التمويل تلك. بل ان أحد وزراء التنمية السياسية طالب أن تبدأ تلك التنمية من رياض الأطفال، وقد خشيتُ حينها من صعوبة محتملة في لفظ كلمة "سياسية" لدى الأطفال الذين سيجدون أنفسهم يخوضون تجربة في التنمية "الثياثية"! كان مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية يجري استطلاعاً للرأي العام عن حال الديمقراطية، وكان السؤال عن الخوف من الحكومة أحد أبرز الأسئلة في الاستطلاع، وكانت نسبة الخائفين تظهر عالية، وعندما تنشر، كانت تثير نقاشا واسعاً نسبيا يختلف فيه المتناقشون حول أسباب ذلك الخوف. لنترك ذلك الزمن قليلاً؛ فقبل 5 سنوات، أي في العام 2013، ألغيت وزارة التنمية السياسية، ودمجت مع وزارة أخرى تحت اسم وزارة "الشؤون السياسية والبرلمانية"، ولعل التجديد الأهم اقتصر على حذف كلمة "التنمية" من الاسم. ولم تكن الظروف وقت إلغاء الوزارة عام 2013 تسمح بنقاش مدى انجازها لمهمتها، أي للتنمية السياسية، لأن السياسة كانت حينها قد نمت كثيراً، فقد كانت المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات والحراكات قد ملأت الشوارع والأجواء الواقعية والافتراضية، ورفعت السقوف، وبرز قادة ونشطاء سياسيون على طريقة الوجبات السريعة، فخلال أسابيع ينجز الناشط ما كان على الحزبي في السابق أن ينتظر سنوات لإنجاز بعضه! وباختصار أصبحت فكرة التنمية السياسية كمن "يبيع الماء في حارة السقايين" على رأي إخواننا المصريين. فقد أصبح المجتمع كله يشكو من تُخمة في المنتجات السياسية، فألغيت الوزارة بصمت. اليوم تبدو الحال مضطربة وطريفة في الوقت نفسه. فالحكومة تتمنى من الناس أن "يُخففوا" من السياسة ويعودوا إلى شؤون حياتهم العادية، والأحزاب التي كانت أصلاً نامية سياسياً، تشعر بالحرج، وتتردد في مواكبة عصر السرعة في العمل السياسي بصورته الحالية، فالهيئات واللجان والاضرابات وحتى الهبّات الكبرى صارت تستعمل لمرة واحدة "ديسبوزابل"، ولم يعد هناك معنى للتراكم والمواظبة والجلد وطول النفس والإصرار، وأصبحت الخبرة العريقة عبئاً، ويحضر القادة والرموز إلى التجمعات الشعبية فلا يستشيرهم أو يأخذ بخاطرهم "السياسي" أحد، ويتبادلون النظرات فيما بينهم عن بعد وبصمت، ويأمل كل منهم أن لا يكون وضعه مكشوفاً للآخرين، ويستمعون إلى شباب يشجبون إلى جانب الحكومة، الأحزاب والنواب والنقابات، فإذا جاءهم حزبي أو نائب أو نقابي، استثنوه من الشجب، وخصصوا له المديح، فتتبدل قوائم المشجوبين والممدوحين على مدار الساعة، وفي هذه الأثناء تحاول "وزارة السياسة" والحكومة ككل، أن تواري بضاعتها، فهي ترى السوق مشبعا بالسلع السياسية ولا تجد لنفسها مكاناً لا في صف الباعة ولا في صف المشترين. قلت في أول المقال، انه مجرد أفكار مبعثرة، يصعب علي لمّها.اضافة اعلان