الثورة المضادة في القرن 21: كيف تسحق النخب المعارضة؟

‏الشرطة الفرنسية تواجه المتظاهرين ضد إصلاحات نظام التقاعد المقترحة، 6 حزيران (يونيو) 2023 – (المصدر)‏
‏الشرطة الفرنسية تواجه المتظاهرين ضد إصلاحات نظام التقاعد المقترحة، 6 حزيران (يونيو) 2023 – (المصدر)‏

جو غيل*‏ - (ميدل إيست آي) 2023/6/16
‏في فترة تتميز بانعدام المساواة، والحرب، والتضخم، وتصاعد انهيار المناخ، من الصعب معرفة المدة التي يمكن أن تستمر فيها هذه الموجة من ردود الفعل.‏
*   *   *
لا يسير التاريخ في خطوط مستقيمة، وإنما يتحرك في موجات -بعضها لطيف، والبعض الآخر يتورم حتى يصنع قممًا عظيمة. وبعد كل موجة، ثمة ارتطام حتمي تقريبًا وانهيار.

اضافة اعلان


‏في الأوقات الأخيرة، اجتاحت موجات من الانتفاضات مناطق مختلفة من العالم، مُحدِثة هزات في النظام القائم. وكما كان الحال في الماضي، فإن الثورات أو حركات التمرد التي تهدد بنية السلطة السياسية والاجتماعية يتبعها دائمًا رد فعل.‏


‏هناك ثلاث انتفاضات إقليمية حدثت في العقد الماضي؛ في شمال أفريقيا والشرق الأوسط؛ وأميركا اللاتينية؛ والغرب، والتي بلغت كل منها ذروتها في الفترة ما بين العامين 2018-2022. ولأغراض هذا المقال، سوف أركز على هذه الموجة الأخيرة من الانتفاضات بدلاً من تلك التي حدثت في بين العامين 2010-2012.‏


‏في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، شهدت ‏‏كل من الجزائر‏‏، ‏‏والسودان،‏‏ ‏‏والعراق،‏‏ ‏‏ولبنان‏‏ ‏‏وإيران،‏‏ احتجاجات جماهيرية وشعبية سلمية في معظمها، حتى في مواجهة عنف الدولة، في ما أشار إلى تعلُّم سياسي كبير من الانتفاضات السابقة التي كانت قد تطورت إلى تمرد مسلح في العديد من البلدان.‏


‏في البداية على الأقل، حققت هذه الحركات نجاحًا جزئيًا: ردت الأنظمة بالعنف، لكنَّ القيادات التي فقدت مصداقيتها أطيح بها من السلطة في بعض الحالات، في الجزائر والعراق، والسودان بشكل أكثر حسمًا، كما تم التعامل مع الفساد السياسي في المحاكم، وسُجن بعض الحكام والوزراء السابقين.


‏في إيران، لم يُظهر النظام أي رحمة ورد بقسوة، حتى على الرغم من أن حركة "المرأة، الحياة، والحرية" في أواخر العام 2022 حققت ‏‏مكاسب محدودة‏‏ -بتكلفة عالية بلغت مئات القتلى- من حيث تخفيف قواعد اللباس الصارمة للنظام الإسلامي.‏


‏مع ذلك، بعد فترة من الزمن، سرعان ما نفدت طاقة الاحتجاجات، وتمكنت الدولة العميقة من إعادة تأكيد نفسها وقمع المتظاهرين. وهكذا، تم استئناف العمل كالمعتاد.‏


‏الانتفاضات‏

 

في أميركا اللاتينية، اندلعت انتفاضات شعبية في تشيلي (2019)؛ وكولومبيا (2021)؛ والبيرو (2022). وفي العديد من البلدان، وصل اليسار إلى السلطة بعد صراع دام 50 عامًا، وتضمن حروبًا أهلية مطولة وقمعًا جماعيًا وانقلابات عسكرية.‏ ولا يمكن الاستهانة بإنجاز هذه ‏‏النضالات الجماهيرية‏‏ بالنظر إلى تاريخ التدخل الأميركي والعنف المستشري في القارة، بما في ذلك الانقلابات القضائية الأخيرة، كما حدث في بوليفيا في العام 2019.‏


وفي الغرب، شوهدت انتفاضات كبيرة في الولايات المتحدة في العام 2020 في أعقاب مقتل جورج فلويد على يد الشرطة، وكذلك في فرنسا، أولاً مع حركة "السترات الصفراء" في 2018-2019، ثم في أوائل العام 2023 ضد إصلاح إيمانويل ماكرون للمعاشات التقاعدية، وهي التي ربما تكون أهم حركة احتجاج شهدتها فرنسا منذ العام 1968.


‏كما شوهدت حركات تمرد سياسية في المملكة المتحدة، مع زعيم حزب العمال البريطاني، ‏‏جيريمي كوربين‏‏، وفي الولايات المتحدة مع محاولتي بيرني ساندرز للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة.‏ وقد مُنيت هاتان الحركتان بالهزيمة؛ وفي حالة كوربين، تمت إقالته من الحزب الذي قاده بفعل عملية زائفة نظمها خليفته. لكن صدى التعبئة الجماهيرية، ‏‏وموجة الإضرابات‏‏ الأخيرة عبر مؤسسات الخدمات العامة في المملكة المتحدة، لم تظهر في شكلها الكامل بعد.


الثورة المضادة‏

 

‏يقودنا هذا إلى التأمل في رد فعل المؤسسة. تقليديًا، تكون الثورة المضادة رد فعل على انتفاضة جماهيرية أو استيلاء مجموعات أو طبقات مستبعدة اجتماعيًا على السلطة.‏


في هذه الحالات، يترتب على الطبقة الحاكمة التي تواجه تهديدًا خطيرًا -وحتى وجوديًا- لحكمها، أن تعيد تنظيم صفوفها وأن ترد على القوى السياسية المتمردة. ويحدث هذا حتى لو كان المتمردون يتبعون "قواعد اللعبة" من خلال المشاركة في الانتخابات أو تنظيم احتجاجات سلمية وقانونية. (ومن هنا جاء احتقار لينين للاشتراكية البرلمانية البرجوازية).‏


في العام 1930، كتب أنطونيو غرامشي أن البرجوازية، عندما تكون في خطر كبير، يمكنها محاولة حل "وضع تاريخي-سياسي يتميز بتوازن قوى يتجه نحو الكارثة" من خلال تدخل "شخصية عظيمة" مكلّفة بمهمة "تحكيم" الصراع المطروح.‏ و‏في الآونة الأخيرة، كانت هناك وفرة في هذه الشخصيات: دونالد ترامب، وجايير بولسونارو، وبوريس جونسون، على سبيل المثال لا الحصر. 


في السودان، يمكن قول إن هذه ‏‏الشخصية "البونابارتية"‏‏ كانت عمر البشير، الذي بعد سقوطه في العام 2019 وقعت كارثة. نفذ الجيش انقلابًا على الحركة الإصلاحية المدنية في العام 2021 قبل أن يختلف فصيلاه الرئيسيان وينخرطان في معركة على الغنائم والسلطة، مما أثار صراعًا دمويًا ما يزال جاريًا.‏


و‏في تونس، فرض الرئيس حكمًا استبداديًا في نوع من انقلاب شعبوي محتمل يفتقر إلى أي شرعية -أو شعبية. وكانت نقطة قوته الوحيدة هي فشل السياسيين الليبراليين الذين أطاح بهم في منح التونسيين أي أمل في المستقبل بعد ثورة العام 2011.‏


أميركا اللاتينية والغرب‏

 

‏في أميركا اللاتينية، كانت قوى الثورة المضادة تحشد صفوفها، من ‏‏تشيلي‏، حيث تم انتخاب زعيم طلابي يساري في أعقاب الانتفاضة، شمالاً إلى بيرو وكولومبيا حيث قلبت حركات التمرد والنتائج الانتخابية غير المسبوقة عقودًا من النيوليبرالية المتشددة.‏


‏تمت الإطاحة بالرئيس البيروفي الجديد، بيدرو كاستيلو، العام الماضي في انقلاب قضائي بعد أشهر من التخريب السياسي الذي مارسه الكونغرس اليميني. وتم اعتقاله وسجنه بتهمة "التمرد والتآمر". وقوبلت الاحتجاجات التي اندلعت في أعقاب اعتقاله والتي شارك فيها الآلاف من أنصاره من مجتمع الأنديز الفقير بالعنف المميت. 


‏في كولومبيا، بعد عام من انتخاب أول رئيس يساري للبلاد، تقوم المؤسسة، بما فيها قدامى المحاربين العسكريين، ‏‏بتحركات منسقة‏‏ ضد الحكومة الجديدة، في حين يتواصل تيار نُقطي مسمتر من ‏جرائم قتل النشطاء‏‏ على الرغم من اتفاق سلام تاريخي أُبرم في البلاد.‏


‏في الغرب، قد تبدو فكرة الانقلابات أو حملات القمع العنيفة غريبة، أو أنها كانت كذلك حتى وقت قريب: 6 كانون الثاني (يناير) 2021، ‏‏ومؤامرة يمينية متطرفة حديثة في ألمانيا‏‏.(1) ومهما كان مصير كلِّ حدَث، فإن هذه الأحداث تمثل نوعًا جديدًا من الاستعداد لرفض النظام الدستوري.‏


في الوقت الحالي، تبدو النخبة السياسية والمالية الحاكمة في الولايات المتحدة آمنة، والحركة اليسارية والشعبية ضعيفة ومنقسمة. وسواء كان ذلك في ظل مركزية بايدن أو عودة إلى شعبوية ترامب، فإن الأغنياء آمنون.‏


‏في الولايات المتحدة، الثورة المضادة دائمة؛ تنسقها وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية في الخارج، بينما هي في الداخل مهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي، ‏‏وقوات الشرطة العسكرية‏‏ المحلية، وكونغرس تسيطر عليه الشركات.


مكارثية جديدة‏

 

‏الصورة في أوروبا مختلفة قليلا. هناك تم تحديد آفة، والتهمة هي "معاداة السامية". وقد بلغ حجم المعلومات المضللة والهستيريا التي يتم تأجيجها ضد المعارضين، مثل المغني البريطاني ‏‏روجر ووترز‏‏،  مستوى نادرًا ما يُرى في العصر الحديث. ‏وليست هذه من نوع المعاداة الحقيقية للسامية التي هي في ازدياد، وإنما نوع مُصنَّع يُستخدم لاستهداف معارضي المؤسسة، مع القليل من الاعتبار -أو عدم إيلاء أي اعتبار على الإطلاق- للوقائع أو الحقيقة. ‏


تشكل "مطاردة الساحرات" الأميركية المناهضة للشيوعية بقيادة السناتور جوزيف مكارثي في أواخر أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين النموذج الأكثر وضوحًا للادعاءات الزائفة التي تتوجه إلى السياسيين والفنانين وصانعي الأفلام، مثل كين لوتش (2) في المملكة المتحدة.‏ كما أن معاداة السامية هي أيضًا محور واحدة من أكثر الحملات ضراوة وإصرارًا في الغرب -والتي تتوجه داخل حزب العمال ضد أي شخص يعارض زعيم الحزب، كير ستارمر. وتجلب كل يوم مرشحين جددًا إلى قائمة الحظر أو تعليق العضوية، ومزاعم جديدة لا تصمد أمام التدقيق.


يشكل حزب العمال البريطاني تحت قيادة ستارمر النظام الحزبي السائد الأكثر فصائلية والأقل تسامحًا الذي شهدته المملكة المتحدة على الإطلاق. وهو محظوظ لأن وسائل الإعلام البريطانية متواطئة في حملته لتصفية يسار حزبه حتى يتمكن من أن يصبح رئيسا لوزراء حكومة مروضة ومؤيدة للأعمال. ‏وإذا فاز ستارمر في انتخابات المملكة المتحدة في العام 2024، فينبغي أن نتوقع أن يكون نهجه الاستبدادي في التعامل مع المعارضة في البلاد قاسيًا مثله مثل حزب المحافظين على الأقل، وأن تكون لديه سلطات قمع غير مسبوقة تحت تصرفه.


‏أقرت حكومة المملكة المتحدة، منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مجموعة من القوانين الصارمة المناهضة للاحتجاج، بما في ذلك ‏‏"قانون النظام العام"‏‏ سيئ السمعة ‏‏و"قانون الشرطة والجريمة والأحكام والمحاكم"‏‏.‏ وليست هذه القوانين مجرد حبر على ورق؛ فقد اجتاحت حملات الشرطة النشطاء السلميين المناهضين للملَكية في بريطانيا -وحتى أحد المارة المناصرين للملكية- يوم تتويج الملك تشارلز. وواجه المتظاهرون المناخيون والنشطاء المؤيدون لفلسطين أحكامًا أقسى بكثير، ووافق ستارمر على ذلك إلى حد كبير.‏


ومن جهتها، شهدت فرنسا هذا العام شهورًا من الاشتباكات العنيفة بين شرطة مكافحة الشغب والمتظاهرين في أعقاب فرض إصلاحات لا تحظى بشعبية في نظام المعاشات التقاعدية. و‏‏ألقت الشرطة البريطانية القبض على ناشر فرنسي واستجوبته‏‏ بموجب قوانين مكافحة الإرهاب بسبب تواجده في الاحتجاجات ومعتقداته السياسية.‏


في الوقت نفسه، ما يزال مؤسس "ويكيليكس"، جوليان أسانج، معتقلًا في سجن بلمارش في انتظار تسليمه إلى الولايات المتحدة، حيث أيد قضاة المملكة المتحدة احتجازه الاستثنائي.‏ هاتان هما بريطانيا وفرنسا، وليس روسيا.


‏الشعبوية اليمينية المتطرفة‏

 

‏وحتى في ألمانيا، حيث تم استبدال ائتلاف وسطي بقيادة أنجيلا ميركل بآخر بقيادة أولاف شولتس من "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، تم اعتناق سياسات قمعية تجاه ‏‏نشطاء المناخ‏‏ والناشطين المؤيدين لفلسطين، مع استخدام مزاعم معاداة السامية كجزء من حملة مستمرة لنزع الشرعية عن الناشطين ‏‏وحظرهم.‏


‏الآن، في فترة تتسم بانعدام المساواة الهائل، والحرب، والتضخم، ‏‏وتصاعد انهيار المناخ‏‏، من الصعب أن نعرف إلى متى قد تستمر هذه الموجة من ردود الفعل، أو إلى أين قد تنتهي. ‏كلما زاد القمع والحملات السياسية الإعلامية ضد المعارضين، شعرنا أكثر بأن الأنظمة الحاكمة تشترك في عاطفة واحدة: الخوف من أنها قد تفقد السيطرة. ‏ومنتظرة في الأجنحة، حيث تشارك في السلطة مسبقًا في الدول الاسكندنافية وإيطاليا وأوروبا الوسطى، ثمة الأحزاب الشعبوية اليمينية؛ الوجه الجديد "المحترم" للفاشية الجديدة.‏


إنها هذه الحركة السياسية التي استحوذ عليها المحافظون البريطانيون والجمهوريون الأميركيون فعليًا، هي التي تشكل الملاذ الأخير لسلطة الدولة والشركات في حال فشلت الأحزاب النيوليبرالية التقليدية، أو الوسطية، في استعادة الاستقرار.


*جو جيل Joe Gill: عمل صحفيًا في لندن وسلطنة عمان وفنزويلا والولايات المتحدة مع العديد من الصحف، منها "الفاينانشال تايمز" و"مورنينغ ستار" و"ميدل إيست آي". يحمل درجة الماجستير في سياسة الاقتصاد العالمي من كلية لندن للاقتصاد.


*نشر هذا المقال تحت عنوان: Counter-revolution in the 21st century: How elites are crushing dissent
‏هوامش المترجم:


(1) المقصود ما تداولته الأخبار من اتهام خمسة ألمان بالخيانة بسبب مؤامرة يمينية متطرفة مزعومة للإطاحة بالحكومة تضمنت خططًا لاختطاف وزير الصحة، حسب ما أعلن ممثلو الادعاء.‏ وتم القبض على أربعة رجال وامرأة مؤخرًا بسبب المؤامرة، حيث أكد وزير الصحة، كارل لوترباخ -الذي لا يحظى بالشعبية بين الجماعات اليمينية المتطرفة بسبب إجراءات مكافحة "كوفيد"- أنه مستهدف.‏
(2) كنث تشارلز لوتش (كين لوتش) Ken Loach: (17 حزيران/ يونيو 1936) مخرج أفلام سينمائية وتلفزيونية يعد حاليًا من أبرز المخرجين البريطانيين، ومن أشد المقاطعين لـ"إسرائيل" نشاطاً. أطلق العديد من البيانات والدعوات ورسائل المقاطعة للمثقفين والفنانين ممن كانوا ينوون إقامة حفلات أو الذهاب إلى "إسرائيل"، وكانت -وما تزال- عبارته "لا تظهروا في بلد يقوم على نظام الفصل العنصري" تتمتع بالانتشار. كما أنه تبرع بكل عائدات عرض فيلمه "أنا، دانييل بليك" لصالح حركة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" على إسرائيل.

 

اقرأ المزيج في ترجمات:

 من المسؤول عن تعثر الهجوم الأوكراني المضاد؟