الدبلوماسية الخفية في قرار محكمة العدل الدولية

نائب المدعي العام الإسرائيلي جلعاد نوام والقاضي البريطاني مالكولم شو في محكمة العدل الدولية، لاهاي، هولندا، يناير 2024 -  (المصدر)
نائب المدعي العام الإسرائيلي جلعاد نوام والقاضي البريطاني مالكولم شو في محكمة العدل الدولية، لاهاي، هولندا، يناير 2024 - (المصدر)

ديفيد كاي* - (فورين أفيرز) 2024/1/26
كيف يمكن أن تقدم القرارات المدروسة بعناية التي أصدرتها محكمة العدل الدولية مساعدة للولايات المتحدة في كبح جماح إسرائيل.

*   *   *
بوضع عَين على القانون الدولي وأخرى على صلاحياتها، أصدرت "محكمة العدل الدولية" في لاهاي حكماً أولياً لمصلحة ادعاء جنوب أفريقيا بأن الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة يمكن تشخيصه، بشكل معقول، على أنه يشكل إبادة جماعية.

اضافة اعلان

 

وفي تصويت بشبه إجماع، أمرت هيئة المحكمة المكونة من 17 عضوًا بأن تفعل إسرائيل كل ما في سلطتها لمنع أعمال الإبادة الجماعية، ووقف التحريض الداخلي على ارتكاب الإبادة الجماعية، والضمان الفوري لوصول المساعدات الإنسانية والفعالة إلى الفلسطينيين في غزة.


ربما يقرأ البعض أمر محكمة العدل الدولية على أنه مجرد تدخل قانوني محدود لم يستجب للمطلب الرئيسي الذي تقدمت به جنوب أفريقيا، المتمثل في إصدار المحكمة أمرًا ينهي على الفور أعمال إسرائيل العسكرية المميتة في القطاع.

 

بل إن القضاة أرسلوا رسالة إلى إلى الحكومة الإسرائيلية حين شددوا بطريقة لافتة على أن كلا طرفي النزاع في غزة "ملزمان باتباع القانون الإنساني الدولي"، وطالبوا بـ"الإفراج الفوري وغير المشروط" عن أكثر من 100 رهينة إسرائيلية ما تزال تحتفظ بهم "حماس" والمجموعات الفلسطينية الأخرى في غزة.


مع ذلك، ينطوي حكم المحكمة على رسالة خفية: إنه يخاطب ويتحدى الدول كافة، وخاصة الولايات المتحدة، ويدعوها إلى التعامل بجدية مع القانون الدولي في وقت يشهد تصاعد حدة العنف والصراعات، ويتدهور فيه احترام سلطة مؤسسات القانون الدولية.


على خلفية الفشل الظاهر لمحاولات إدارة بايدن الحد من تأثير الحرب على المدنيين، تكون المحكمة الدولية قد ألقت بطوق نجاة للإدارة بمنحها الفرصة لانتهاج سياسة جديدة تجاه الصراع، تكون مستندة إلى الأعراف الدولية.

 

وكان ينبغي أن يتبنى البيت الأبيض قرار المحكمة الدولية وأن يوظفه كأداة دبلوماسية جديدة لوقف العملية العسكرية الإسرائيلية، ودفع "حماس" إلى إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم لديها بطريقة غير مقبولة.


اعتدال لافت

 


لا يعدو القرار الصادر في 26 كانون الثاني (يناير) كونه مجرد البداية في عملية قضائية مطولة أمام محكمة العدل الدولية. ويغلب أن تستغرق الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل سنوات من التقاضي قبل البت في مسألة الاختصاص القضائي، وكذلك مناقشة عناصر تهمة ارتكاب إبادة عرقية.


قبلت المحكمة النظر في الدعوى من حيث المبدأ. وكان رد فعل الولايات المتحدة وأوروبا وطريقة تعاطيهما مع حكم المحكمة أكثر أهمية من القرار نفسه.

 

ولو أن واشنطن وبقية القوى الغربية اكتفت بدعم معقول ومعتدل لموقف إسرائيل، لما غامرت بإلحاق مزيد من الضرر بالقانون الدولي وما تسميه "النظام الدولي القائم على القواعد".

 

وكانت هذه القوى نفسها قد أيدت هذا النظام في قضايا سابقة رُفعت أمام محكمة العدل الدولية، مثل تلك التي رفعتها أوكرانيا ضد الهجوم الروسي في العام 2022، والدعوى التي رفعتها غامبيا في العام 2019 ضد ميانمار واتهمتها فيها بارتكاب الإبادة العرقية على إثر استهداف أقلية الروهينجا.

 

وتخاطر هذه القوى بالتسبب بمزيد من السخط لدى عدد كبير من حكومات العالم، خاصة في الجنوب العالمي، التي سبق وأن دعمت المحكمة الدولية، والتي يدعم معظمها القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا.


سوف يجلب أي طعن خطابي في قرار المحكمة على الأغلب تبعات سياسية داخلية على الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي يخوض حملة انتخابية محاطة بالصعوبات بسبب خيبة الأمل الكبيرة التي أصيب بها المجتمع الأميركي-العربي بسبب دعم الإدارة غير المشروط لإسرائيل منذ هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر).


تكتسي المواقف المعلنة من القضية أهمية بالغة بالنظر إلى أن قرار "محكمة العدل الدولية" كان مُعايرا ومعتدلا إلى حد كبير. ولو كان القرار أكثر حدة لكان قد عقّد رد الفعل الأميركي.

 

وكان قبول المحكمة طلب جنوب أفريقيا والأمر بإنهاء فوري للعملية العسكرية الإسرائيلية سيدفع الولايات المتحدة وإسرائيل إلى رفض الحكم.

 

ولكن، مع أن العرض المسهب الذي تلته رئيسة المحكمة الدولية، القاضية جوان دونوغيو، لحيثيات الحكم أظهر مدى سوء الوضع في غزة، فإن لغة العرض كانت معتدلة، وتجنبت ذكر بعض الأدلة القوية على حجم الموت والدمار التي قدمتها جنوب أفريقيا في لائحة الدعوى المكونة من 84 صفحة، وفي المرافعة الشفهية لوفدها القانوني التي استمرت لثلاث ساعات أمام هيئة المحكمة في أواسط كانون الثاني (يناير).


وكان يمكن أن ترد المحكمة دعوى جنوب أفريقيا وتتبنى الموقف الإسرائيلي الذي ارتكز فقط على محاولة دحض وجود شرط النية لارتكاب الإبادة الجماعية.

 

وكان ذلك سيتعارض بالمطلق مع القلق العالمي البالغ من فداحة الخسائر في الأرواح في غزة. ووفق ما توقع المراقبون المطلعون، استندت المحكمة في قرارها إلى قانونها الأساسي، وحرصت على تأكيد اختصاصها بالنظر في الدعوى ووضعته في إطار القضايا الأخرى المشابهة التي نظرت فيها في أوقات قريبة وكانت متعلقة بالإبادة الجماعية.


في قرارها، أصدرت المحكمة ستة أوامر قضائية مؤقتة، وأعادت التأكيد على وجوب وفاء إسرائيل بالتزاماتها بموجب القانون الدولي.

 

وفعَّلت المحكمة لوائحها الخاصة للتقرير بشأن القضايا الأساسية. وبالبناء على سوابق قضائية مماثلة، وافق القضاة على أن جنوب أفريقيا استوفت المعايير بالحد الأدنى لإثبات اختصاص المحكمة بالنظر في دعواها ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية.

 

كما أشارت بوضوح إلى أن هذه النتيجة لا تعني أن المحكمة أصدرت حكمًا حاسمًا بشأن وجود انتهاك لمعاهدة حظر الإبادة الجماعية.


كان من اللافت أن المحكمة سردت في حيثيات قرارها وبالاستناد إلى لوائحها، مجموعة من الخلاصات التي توصلت إليها الأمم المتحدة بشأن الدمار الذي لحق بالقطاع بعد أكثر من ثلاثة أشهر من بدء الهجوم الإسرائيلي.

 

ووجدت أن "الحقوق التي طالبت جنوب أفريقيا بحمايتها معقولة" -في تحقيق المعيار الأدنى الذي كان على جنوب أفريقيا الوفاء به حتى تأمر المحكمة بالتدابير المؤقتة.

 

وقد أشارت القاضية دونوغيو في معرض تلاوتها للحيثيات إلى تصريحات صدرت عن "كبار المسؤولين الإسرائيليين" -من بينهم وزير الدفاع يوآف غالانت، والرئيس إسحاق هيرتسوغ- والتي كانت جنوب أفريقيا قد وصفتها، مع آخرين، بأنها تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم -إن لم تكن دعوة صريحة إلى الإبادة الجماعية.


وجاء رد المحكمة على طلب جنوب أفريقيا الطارئ، وهو من المعايير الأساسية أيضاً بحسب تشريعاتها، في بيان قد يكون الأكثر أهمية: "على خلفية هذه الظروف، ترى المحكمة أن الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة يُهدد بخطر المزيد من التدهور الجدي قبل أن تصدر المحكمة حكمها النهائي".  


على الرغم من الاعتدال الظاهري في قرار المحكمة، فقد كان حكمًا بالإدانة. ولم يكن قبول النظر في الدعوى على أساس ادعاء جنوب أفريقيا ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة، ما يشكل تهديداً محتملاً، إدانة لإسرائيل ولسلوكها المستقبلي في غزة فقط، وإنما شكل أساسًا لإدانة أولئك الذين دعموها بقوة، مثل الولايات المتحدة.


وجدت المحكمة أن تأكيد جنوب أفريقيا على ضرورة حماية الفلسطينيين من أعمال الإبادة الجماعية معقول.

 

حتى أن القاضي أهارون باراك، الذي انتدبته إسرائيل لتمثيلها في المحكمة، ضم صوته إلى الأصوات التي طالبت إسرائيل بمنع التحريض العلني والمباشر على ارتكاب إبادة جماعية، واتخاذ "التدابير الفورية والفعالة كافة" الكفيلة بإيصال المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين.

 

وهذه نتائج مهمة تعكس القلق العالمي إزاء الوضع الإنساني في غزة.


تميز قرار المحكمة بالقوة بالنظر إلى الجهود التي بذلها القضاة لإبعاد قرارهم عن لغة السياسة أو التحزب وتوضيعه في إطار السوابق القضائية المعروفة.

 

كما زاد قرار المحكمة الحكيم بتحييد المطالبة بأمور لا تمتلك أي سلطة فعلية لتنفيذها من دون دعم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة -مثل إنهاء العملية العسكرية الإسرائيلية- من أهمية التدابير التي أمرت باتخاذها.

 

وقد أشارت المحكمة إلى أن قراراتها مُلزمة للأطراف المتقاضية كافة. وكان ما طالبت به في الأساس هو ضرورة احترام إسرائيل لما يعرف الكثيرون مسبقًا أنها التزامات تفرضها معاهدة منع الإبادة الجماعية.


ما الذي يجب أن تفعله واشنطن؟

 


في الفترة التي سبقت صدور حكم المحكمة في 26 كانون الثاني (يناير)، وحدت الولايات المتحدة موقفها مع الموقف الإسرائيلي بوصف دعوى جنوب أفريقيا بأنها بلا أساس.

 

ويمكن للولايات المتحدة أن تدفع بهذه الحجة، في حال أرادت ذلك، أمام المحكمة كطرف متدخل في القضية في مرحلة لاحقة.

 

لكن المسألة التي أثارها قرار محكمة العدل الدولية الابتدائي مختلفة. الآن، تواجه إدارة بايدن مشكلة يصعب حلها بالتصريحات الشفهية عن ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة.

 

كان التحدي الذي طرحته المحكمة أمام الولايات المتحدة هو أن الجيوسياسة وحدها لا يمكن أن تكون الوسيلة لإنهاء الصراع، وأن القانون الدولي يجب أن يضطلع بدور أساسي في مثل ذلك.

 

كما تتضمن الرسالة أن للالتزامات الدولية قيمة مهمة، وأن عدم احترام الولايات المتحدة لهذه الالتزامات القانونية التي يجمع عليها العالم تقريبًا يمكن أن يقوض شرعيتها كقائدة للنظام الدولي القائم على القواعد.


وبالإضافة إلى ذلك، أعطت المحكمة للولايات المتحدة وأوروبا سببًا جديدًا لمطالبة إسرائيل بتغيير نهجها في غزة. كما يقدم قرار المحكمة لإدارة بايدن فرصة للإعراب على استيائها المستند إلى القانون الدولي من الخطاب الذي يستخدمه بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية اليمينية، والذي يجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم.

 

ويوفر لواشنطن وسيلة للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لفعل ما هو أفضل من تكرار التصريح بأن هدف إسرائيل هو "القضاء على حماس"، وضبط حلفائه السياسيين والعسكريين الذين يواصلون الحديث عن تدمير غزة وسكانها الفلسطينيين.


وقبل كل هذا، يجب على الولايات المتحدة الاستجابة لقرار المحكمة والاعتراف بالمسألة الأساسية المتمثلة في ضرورة التزام إسرائيل بوقف الأعمال التي يمكن وصفها بأنها إبادة جماعية.

 

ولا يجب على الإدارة الأميركية أن تتبنى بالضرورة ادعاء جنوب أفريقيا بأن أعمال إسرائيل تشكل في الواقع إبادة جماعية -وهو ما لم تتبناه محكمة العدل الدولية نفسها، وقد لا تتبناه في نهاية المطاف، لكن عليها الاستجابة لتعبير المحكمة، في قرار أيدته غالبية ساحقة من هيئتها، عن قلقٍ مشروع وجدي من الأعمال الإسرائيلية.

 

وإلى جانب دعمها لحق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، تستطيع الولايات المتحدة أن تؤيد مطالبة المحكمة لإسرائيل باتخاذ خطوات ملموسة نحو وقف استخدام العنف المفرط ضد المدنيين في غزة، والكف عن إلحاق الدمار الشامل بالبنية التحتية الأساسية التي تجعل غزة صالحة للعيش، ومعاقبتها على مثل هذا الاستخدام.


في الحقيقة، لا يجب أن تكون الولايات المتحدة متفرجاً محايدًا عندما يتعلق الأمر بالأعمال العسكرية الإسرائيلية وإنفاذ القانون الدولي.

 

وقد سبق وأن استفادت واشنطن من السلطة التي تتمتع بها محكمة العدل الدولية في وقت سابق حين ساعدت في اضطلاع المحكمة بتحقيق العدالة الدولية.

 

وكان ذلك عندما رفعت الولايات المتحدة دعوى في محكمة العدل الدولية ضد إيران في العام 1979، طالبت فيها بإطلاق سراح الأسرى الأميركيين المحتجزين في مبنى السفارة الأميركية في طهران في ذلك الحين.

 

والآن، منحت المحكمة الولايات المتحدة فرصة لإعادة التأكيد على التزامها التاريخي في تلك الحادثة، وعلى إدارة بايدن ألا تضيع هذه الفرصة.

*ديفيد كاي David Kaye: أستاذ في كلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا، إيرفين، وأستاذ كرسي منحة فولبرايت للعام 2023-2024 في "القانون الدولي العام" في جامعة لوند في السويد.


*نشر هذا المقال تحت عنوان: The ICJ Ruling’s Hidden Diplomacy: How the Court’s Considered

Measures Can Help America Restrain Israel

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

الإبادة الجماعية في غزة‏ في دعوى جنوب إفريقيا