فلسطين أقل من الصفر

إسرائيلي يوقف فلسطينيين على حائط في سياق الإذلال المنهجي الذي يمارسه كيان الاحتلال - (المصدر)
إسرائيلي يوقف فلسطينيين على حائط في سياق الإذلال المنهجي الذي يمارسه كيان الاحتلال - (المصدر)

تفكر الولايات المتحدة في منح الفلسطينيين دولة تفتقر إلى المقومات السيادية للدولة. وهذا الأمر لن ينجح.
*   *   *
في الأسبوع قبل الماضي، عقد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي اجتماعا في بروكسل لمناقشة خطة أخرى تُضاف إلى قائمة الخطط السابقة حول مرحلة ما بعد الصراع في غزة، والتي تقترح مسارا نحو إقامة "دولة فلسطينية".

اضافة اعلان

 

وفي واشنطن، أصر الرئيس الأميركي، جو بايدن، بدوره، على أن إنشاء دولة فلسطينية هو السبيل للمضي قدما. وعندما ووجِه بواقع أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يرفض مفهوم قيام دولة فلسطينية، شدد بايدن على أن نتنياهو لا يعارض جميع نماذج حل الدولتَين مع الفلسطينيين- وفي إصرار بايدن تكمن المشكلة.


يشكل موقف نتنياهو تجاه قيام دولة فلسطينية امتدادا لتكتيك قديم يعتمده حول هذه المسألة، والذي يتمثل في تقديم نفسه أمام الرأي العام الإسرائيلي على أنه القائد الوحيد القادر على مواجهة الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة من أجل إقامة هذه الدولة. لكن ما تبين بوضوح شديد هو أنه ليس هناك ضغط حقيقي يمارَس على إسرائيل.

 

وأن ما تفعله واشنطن ببساطة هو التعبير عن الخيارات التي تفضلها. أما الضغط، فيعني أن تستخدم واشنطن أدوات النفوذ التي تمتلكها، سواء ورقة المساعدات لإسرائيل أو أشكال الدعم الأخرى، للتأثير عليها. ولا يبدو هذا واردا على الإطلاق.


مع ذلك، يستمر بايدن في تقديم حل الدولتين على أنه خيار قابل للتحقيق، لأن البديل -أي الاعتراف بواقع الدولة الواحدة- هو شيء لا تستسيغه واشنطن. ولذلك، بدأ الرئيس الأميركي باقتراح أشكال أخرى من "الدولة" قد تتمتع بحظوظ أكبر في إقناع إسرائيل، ومن ضمنها إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح.

 

وعلى سبيل المثال، أشار بايدن، في تصريحات أدلى بها مؤخرا، إلى أن بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ليست لديها جيوش خاصة بها.


ولا شك في أن بايدن محق في هذا الصدد. ثمة بالفعل دول أعضاء في الأمم المتحدة من دون جيوش. لكن هذه الدول تتشارك جميعها مجموعة من الخصائص المحددة. في العادة، تكون دولة أخرى قد وافقت على الدفاع عنها ضد العدوان الخارجي.

 

وعلى سبيل المثال، لا تمتلك أندورا جيشا وطنيا، لكنها أبرمت معاهدات دفاعية مع إسبانيا وفرنسا. وتشكل ميكرونيزيا مثالا آخر، لكن مسؤولية الدفاع عنها تقع على عاتق الولايات المتحدة. وتعتمد جمهورية ناورو، مثلا، على أستراليا. ولدى بضع عشرات من الدول أيضا ترتيبات مماثلة.

 

وقد تتخذ المعاهدات الدفاعية كذلك شكل علاقة دفاع إقليمي، وربما يكون أشهرها نظام الأمن الإقليمي بين دول منطقة البحر الكاريبي ودول أميركا الجنوبية. ويعتمد نجاح ذلك النموذج على وجود روابط وثيقة بين الدول الأعضاء وداعم خارجي قوي.


قد يجادل البعض بأن هذه كلها سوابق تدعم قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومسلوبة السيادة كحل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن هذه السوابق جميعها لا تنطبق في هذه الحالة.

 

تصر إسرائيل على "بسط سيطرتها الأمنية الكاملة على جميع الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن"، أي بتعبير آخر، على أي منطقة قد تقع ضمن الحكم الذاتي الفلسطيني.

 

وهذا يعني أن تكون إسرائيل قادرة على الدخول عسكريا إلى هذه الأراضي متى تشاء، من دون الحصول على موافقة الفلسطينيين. ولا ينطبق هذا الوضع فعليا على أي من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ولا يشبه معاهدة الأمن الإقليمي بين دول الكاريبي وأميركا الجنوبية.

 

فالتحدي الأمني الأساسي للفلسطينيين هو إسرائيل في حد ذاتها. وسيكون الأمر في هذه الحالة أشبه بالقول إن على أوكرانيا إبرام اتفاقية أمن إقليمي مع روسيا بقيادة فلاديمير بوتين.


وهكذا، لا ينطبق أي من السوابق المذكورة حقا في هذه الحالة. لكن هناك سابقتين لهما بعض الخصائص المألوفة، إحداهما في أوكرانيا، والأخرى في جنوب أفريقيا. في العام 2014، أعلنت روسيا عن إنشاء "جمهوريتَي" دونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا، وضمت في الوقت نفسه شبه جزيرة القرم. وعلى المستوى الهيكلي، يشبه ذلك تماما ما تحاول إسرائيل فعله، أي ضم أراض في أجزاء من الضفة الغربية، والسماح بـ"حكم ذاتي" في أماكن أخرى من الأراضي المحتلة.

 

وقد نظر المجتمع الدولي بريبة إلى الخطوات التي اتخذتها روسيا في دونيتسك ولوغانسك باعتبار أنها أشبه بجهود لإضفاء الشرعية على الاستيلاء غير القانوني على الأراضي. لكن الواقع هو أن رؤية إسرائيل والولايات المتحدة بشأن الدولة الفلسطينية المحتملة لا تختلف كثيرا، حيث لا يبدو إنشاء دويلة فلسطينية منزوعة السيادة سوى مسعى لإضفاء الشرعية على الاحتلال.


أما السابقة الثانية، فهي بوفوتاتسوانا التي كانت من البانتوستانات في جنوب أفريقيا (أي "الأوطان" أو ما يمكن تسميته بـ"المحميات" في السياق الأميركي)، التي منحها نظام الأبارتايد حكما ذاتيا. وقد احتفظ الجنوب أفريقيون بالسيادة، لكن بوفوتاتسوانا (التي كانت مجزأة جغرافيا) مثلت حلا لمسألة توفير "الحكم الذاتي" مع الحفاظ على نظام الأبارتايد في بقية جنوب أفريقيا.


إذا ما تصورا لما قد يكون نتنياهو على استعداد لقبوله طوعا كـ"دولة" فلسطينية، وهو ما يراه بايدن بوضوح خيارا، فإن ما ينشأ لن يحتوي على عناصر الدول الأعضاء الحالية في الأمم المتحدة، وإنما على عناصر من المخططات سيئة السمعة التي طبقتها روسيا في عهد بوتين، وجنوب أفريقيا في ظل نظام الأبارتايد. وقد يلقى ذلك قبول المسؤولين في الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن من غير المرجح أن يكون مشروعا ناجحا للفلسطينيين، وهم السكان الخاضعون للاحتلال، ولا للدول العربية التي تتطلع إسرائيل إلى تطبيع العلاقات معها.


منذ أكثر من 20 عاما، تقدمت المملكة العربية السعودية بمبادرة السلام العربية التي أقرتها جامعة الدول العربية بالإجماع في العام 2002، وتعهدت الدول العربية بموجبها بتطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل إنهاء احتلالها للأراضي العربية وإقامة دولة فلسطينية. وبعد أن كررت هذه الدول منذ ذلك الحين أن التطبيع مطروح على الطاولة مقابل ثمن أقل بكثير مما كان عليه قبل 20 عاما، أصبح المطلوب اليوم مجرد "مسار" يؤدي إلى دولة فلسطينية.


لكن الجزء الصامت من هذا الوضع ربما يكون ما قاله بصوتٍ عالٍ مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل. ففي حين أن طريقة تعاطي إدارة بايدن مع المسألة معقدة، لأن هذه الإدارة تسعى إلى إنجاز شيء ما بالشراكة مع الإسرائيليين الذين يحددون "الوسيلة الأفضل لضمان أمن إسرائيل"، قال بوريل بمنتهى الصراحة إن الدولة الفلسطينية قد تحتاج إلى أن "تُفرَض من الخارج" من دون موافقة إسرائيل.


يبقى احتمال حدوث ذلك في الوقت الراهن مشكوكا فيه، بل إن الأمر الأبعد احتمالا هو نجاح ترتيبات قد تقبلها إسرائيل طوعا لتهدئة شعب يسعى إلى تحقيق السيادة وإنهاء الاحتلال العسكري.

 

وفي غضون ذلك، تستمر إسرائيل في تحويل غزة إلى أرض غير مأهولة وغير قابلة للسكن، فيما تبقى محكومة من ائتلاف يضم عناصر يمينية متطرّفة تسعى علانية إلى تهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من غزة. وقد لا توافق الولايات المتحدة على مثل هذه السياسات، إلا أنها ما لم تكن مستعدة لاستخدام نفوذها لإرغام إسرائيل على تغيير اتجاهها، فإن أي نقاش عن دولة فلسطينية سرعان ما سيصبح غير ذي جدوى.

‏*الدكتور هـ. أ. هيلير Dr. H.A. Hellyer: باحث غير مقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. وهو زميل مشارك أول في المعهد الملكي للخدمات المتحدة لدراسات الدفاع والأمن في لندن، وزميل في جامعة كامبريدج.


*نشر هذا المقال بالإنجليزية تحت عنوان: A Palestine Less Than Zero

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

  اتّساع هوة الانقسام حول فلسطين