عن الحرية التي ترد لهن الروح

امرأة تدرس- صورة تعبيرية
امرأة تدرس- صورة تعبيرية

سارة زايد عمان- تشهد استقلالية المرأة استياء شديدًا وواضحًا في مجتمعاتنا العربية، حتى لو تم الاحتفاء بها في بعض الثقافات الأخرى؛ إذ لم تكن -ومن المستبعد أن تكون- كل الأسر، على متن ذات القارب، حينما يتعلق الأمر بطرح موضوع الاستقلالية، فمنهم من يرى استقلالية المرأة انحرافا أخلاقيا صريحا ومنهم من يجدها ضرورة ملحة في حالة تعذُّر استكمال دراستها، واستئناف عملها أو متابعة شغفها في منزل العائلة. في هذا التقرير نرصد قصة إعادة إنعاش حيوات أربع فتيات اضطرتهن الظروف القاهرة إلى ترك منزل العائلة وشق طريقهن نحو الاستقلال، فخلصت كل واحدة منهن إلى تحقيق ما رمت إليه بمسارٍ جديد ومغاير.

اضافة اعلان

 

طريق الحرية يبدأ برفقةِ كلود مونيه..

"كنتُ الفتاة الأصغر في المنزل، الأصغر في عائلتي هو المعنَّف، لا المُدلل". هكذا بدأت دهب كما أحبت أن تُسمّي نفسها حديثها معي عندما أخبرتني عن سبب انفصالها عن منزل عائلتها بعد مضي ما يقارب الأربعة وعشرين عامًا على التحامها معهم". كان صوت دهب خافيًا في المنزل، ولم تكن تعي ما سُلِب منها من حقوق إلّا بوفاة والدها، "لقد كنت أحيا من أجله، وجوده أعمى عيني عما سُلبت من حقوق، وما نثرته أمي من امتيازات في حضن أخي الأكبر، وبوفاته أفقت على واقعي المليء بالنفي والإقصاء منذ الصغر." تعود دهب بذاكرتها إلى حياتها مع أبيها، إذ كان يؤمن بحرية البحث عن الذات والهوية، يؤمن بنزعة الشباب للميل نحو التجريب والسقوط ثم السمو، فقد أرادت -وسعى لها- منذ نشأتها بأن تدخل كلية الفنون والتصميم، كان دائمًا ما يرسم لوحات كلود مونيه،> ويطلب منها أن تعيد محاكاتها، وبوفاة والدها أجبرتها والدتها وأخوها على تغيير مسار تخصصها لأنه "ما بناسبهم بنتهم تكون بهيك مهزلة، أبوكي مات الله يرحمه بدك تعيشي معنا بنظامنا إحنا"، تقول دهب. رفضت دهب أن تردم حياتها بيدها، فنُبِذت، واختارت أن تُكافح في سبيل أن تمضي قدمًا في تخصصها وألا تتخلى عنه بحجة المجتمع الذي يرى بهذا النوع من التعلم شرودا أخلاقيا، فضُربت وحُرمت من الخروج من المنزل مدة عام> وأصرت عائلتها على ألا يفك هذا الحصار إلا في حال تخليها عن تخصصها، لكن دهب عاندتهم واتخذت قرارًا مصيريًا، وهو البعد عن منزل العائلة والمكوث في مدينة أخرى، مدينة تحتويها وأحلامها، وفنها. تركت دهب المنزل، "لم يبحثوا عني ولم أبحث عنهم، بخروجي من المنزل مت جسديًا بالنسبة لهم كما كنت قد مت سابقًا في وجدانهم. كان ضربي وتعنيفي وحرماني من دراسة الفن ذا منشأ ديني واجتماعي ركيك؛ فعائلتي ومنذ صغري كانت تنبذ الفن وترى فيه عملا شيطانيا، وحده والدي كان مفتونًا به وأنا تبعت خطاه، لكننا لم نسلم من الشيطنة؛ فالمجتمع الذي نشأت فيه أمي وإخوتي يختلف كثيرًا عن طباع وتربية والدي، مجتمع لديه أعين حاكمة شرسة تهابه عائلتي أكثر من ألف إله". "بس انحبست وانضربت، كنت ماشية بتخصصي ومتشربة منه، ومعدلي ممتاز، وشغلي في الترجمة الإنجليزية ممتاز، ولولا شغلي يلي كنت بنجزه من البيت خفية، كان ما قدرت أستقل ماديًا وأطلع، مافيّ أترك الفن بس لأنه نظرة الناس لإله نَقِيصَة" تنهي دهب كلامها، مخبرةً إياني بأن الفن وحده ورضا والدها عنها هما من طردا وحدتها خلال استقلالها عن منزل العائلة.

 

المجتمع يرى سكن الطالبات زلّة، والسكن المستقل خطيئة

أمّا مرح، فلم يكن اختيارها للعيش بمفردها هي وأختها نتاج تعرضهن لقسوة عائلية أجبرتهن على ترك جذورهن بالمنزل واختيار طريقهن الاستقلالي، إذ تخبرني مرح أنها تعمل في مدينة أخرى تبعد عن مكان إقامة عائلتها ساعة ونصف الساعة بالسيارة. وكان من المجهد أن تظل هي وأختها يسلكن ذات الطريق إلى عملهن يوميًا ذهابًا وإيابًا، خاصةً بعدما اضطرت أختها لبيع سيارتها، إذ لم تعد هناك حرية كبيرة في التنقل والحركة. "أكيد مش حنترك شغلنا يلي صرلنا فيه سنين. عائلتي ما بحبو فكرة السكن خوفًا علينا من هالمجتمع، بس بالمقابل ما عارضونا." تقول مرح. لم تشهد مرح وأختها رفضًا قطعيًا من العائلة بسبب مكوثهن وحدهن، أمام المجتمع فبدأ باستهجانه وإدانته لهن، خاصةً أنهن اخترن أن يسكنَّ في بيت عائلة، وليس سكنًا للطالبات، كما تفعل معظم الفتيات. "المجتمع استهجنا، بتلاقي في تساؤل ضمني مفاده شو بدكم فيه للبيت هالقد كبير؟ مين بزوركم ومن وين بتتحملوا مصروفه؟ طريقة السؤال سيئة، وكأنه أخدنا البيت لنسمح للذكور يصرفوا علينا" تُعبِّر مرح مستاءة من السلوك الفكري الذي ينتهجه مجتمعها.

 

شبه رضا عائلي واستنكار مجتمعي

فاطمة وعلى الرغم من أنها حظيت بموافقة شبه ضمنية من عائلتها على قرار استقلالها، إلّا أن المجتمع لا يزال يمارس دوره الضاغط على قرارها. "كنت مخنوقة من الوضع بالبيت، بيتي هو بيت العيلة يعني كله بتدخل ببعضه، وأنا شخصيتي تغيرت بشكل محوري، وطريقة حياتي وتصوري إلها لقدام غير عن كيف عيلتي بدهم ياها." حينما قررت فاطمة أن تستقر بمدينة أقرب إلى جامعتها وأبعد عن منزل عائلتها، كانت في عامها الجامعي الأخير، والآن هي حديثة التخرج، تنجز تدريبها العملي، وتعمل في مطعمٍ إضافة إلى إعطاء دروسٍ خصوصية كي تُحسن من دخلها. ما زالت تسكن في ذات المكان، وخيار العودة إلى منزل عائلتها مرفوضٌ قطعًا، بل تطمح إلى أن تحصل على منحة دراسية، أو فرصة للهجرة إلى كندا. في بادىء الأمر، بادر الأقارب والمعارف بالسؤال عنها بشكل متكرر "هي وينها فاطمة مابتبيّن؟" على الرغم من عدم معرفتهم بها أو سؤالهم عنها حين كانت تمكث مع عائلتها. وبسبب إصرارهم على معرفة مكان فاطمة، وإحراجهم لوالدتها بسبب ردة فعلهم المتزمتة في حال أدركوا حقيقة استقلالها، كانت دائمًا ما تتحايل عليهم لتخبرهم بأن فاطمة نائمة أو تدرس. تخبرني فاطمة عن ردة فعل المجتمع فيما بعد، أي بعد ما انتشر خبر استقلالها، "في كل مرة بمشي فيها في حي عائلتي وكل ماحدا يشوفني بالشارع، الكل بعرف مين فاطمة، بعرفوا بس إنه هاي فاطمة يلي مش عايشة عند أهلها." لم تتخيل فاطمة في يوم ما بأن تسلك هذا المسار من حياتها "ماتخيلت أشتغل بمطعم أو يكون علي أجار ومليون مصروف وأنا ما معي دينار، بس مضطرة أدور على شغل بأسرع وقت ومضطرة أشتغل"، لكنها لا تخفي فرحتها واعتزازها بذاتها، فشخصيتها القوية تفرض عليها أن تقتنع بمبدأ واحد، ليكون هذا المبدأ رفيقها الأصيل في هذه المغامرة، وهو أن تفعل ماتريده وحدها وبنفسها، دون أن يفعل عنها شخص آخر، أي شيء آخر..

 

مجتمع يقدِّس الزوج ويؤثم الطلاق والخلاص..

تزوجت لينا "اسمًا مستعارًا" باكرًا، لم ترفُض ولم تُغصَب على الخطبة، في بادىء الأمر عندما كانت في السادسة عشر من عمرها؛ إذ لم يكن لديها من الوعي والإدراك ما يكفي لمنع نفسها من إتمام الأمر، "كنت طفلة، وعائلتي كانوا متل كأنهم بقنعوني ببلوزة". خلال أسبوع واحد تم عقد القران، تدراكت لينا خطأها، كانت تعرف ذاتها جيدًا، كانت مجتهدة في المدرسة وكانت فنانة تهوى الرسم وتبدع فيه، أما زوجها فكان لا يرى المرأة إلّا أنها خلقت من أجل خدمته وراحته. رُفِضَت محاولات لينا للامتناع عن الزواج، كانت عائلتها تنظر إليها وكأنها جاحدة وكافرة بالنعمة؛ بحكم كرم الزوج وغِناه، بينما كان منبع رفضها استعجالها وخطأها في تقدير جدية الأمور. في عمر التاسعة عشر، أنجبت ابنها الوحيد، وكانت حياتها الزوجية مليئة بالضرب والإهانة والحبس، استمرت على زواجها مدة ست سنوات، "وعدني خلال هالسنوات باستكمال تعليمي، بس خلّا الموضوع مؤجل حتى نفذته بإصرار مني ووقتها كنت الأولى على فرعي في الثانوية العامة، ووقتها قررت أتحرر منه، لأنه علمي كان سلاحا قويا بإيدي"، تضيف لينا. اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات على طلاقها، لم تتخلص لينا بعد من آثار تجربتها السيئة، لكنها على الأقل تحيا بحرية وكرامة بعد أن استقلت عن عائلتها وسكنت هي وطفلها في العاصمة عمّان وأجادت تأمين عمل براتب يسير يوفي التزاماتها. تحكي لي لينا عن مجتمعها وقسوة نظرته للمرأة المطلقة المستقلة، "المجتمع بقدس الزوج، وبمحيطي أهم شي تحافظي على زوجك مهما كان سيىء، والطلاق عيب وفي حال تطلقتي لازم تقعدي ببيت أهلك وتترهبني فيه." كان السبب الحقيقي وراء استقلالها هي رغبتها الملحة بأن تربي ابنها بطريقتها هي وحدها، دون عشوائيات أو تدخلات مفرطة من العائلة، وهو كلام عصي على استيعاب مجتمعها، الذي يرى أن حبها للاستقلالية ماهو إلا رغبة خفية للمشي على "سكة الخطأ" على حد قولها.

 

المحامية والناشطة في العمل الحقوقي والعام نور الإمام ترى أن خطوة استقلالية الفتاة هي خطوة اختيارية؛ فلا يوجد ما يجبر الفتاة غير المتزوجة قانونيًا على الانفصال عن الأهل> وكذلك ووفقًا للمادة (6) من الدستور الأردني فإن كل الأردنيين متساوون أمام القانون وعليه فإن القانون المدني في المادة (43) والتي يتحدد فيها سن الرشد ببلوغ الفرد سن الثامنة عشرة ويكون أهلاً لإبرام العقود ومؤهل للقيام بكل التصرفات، ومنها إيجار منزل خاص أو شراء منزل والسكن بمعزل، لم تفرق ما بين أهلية الرجل والمرأة في إبرام العقود والقيام بالتصرفات، إذ لا يوجد بالقانون ما يمنع ذلك إلا إذا كانت المرأة مؤتمنة على نفسها، حيث انه بالاستناد الى قانون الأحوال الشخصية في المادة 185 : (( للولي المحرم أن يضم إليه الأنثى إذا كانت دون الثلاثين من عمرها وكانت غير مأمونة على نفسها ما لم يقصد بالضم الكيد والإضرار بها)). كما لا بد من الإشارة في هذا الصدد الى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والمصادق عليها من قبل الأردن والمنشورة بالجريدة الرسمية بأنها أيضاً منحت المرأة هذا الحق بالمادة 15/4 هذا الحق حيث ورد فيها الأتي : (( تمنح الدول الأطراف الرجل والمرأة نفس الحقوق فيما يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم)). الإمام أشارت كذلك أن الاستقلالية بالمجمل تبني الفرد بشكل أكثر اعتمادًا على النفس، وإن رافقتها الاستقلالية الاقتصادية فإن ذلك من شأنه أن يعزز القدرة على صنع القرارات الشخصية والمصيرية دون أي تدخلات.