أيام قديمة

 

بعصاه المدببة، يفتتح الأستاذ الدرس منذرا بسخطه "الأممي" علينا، وعلى من زجوا بنا في طريقه؛ يردد بصوت عال أن الاستعمار نهب ثروات العرب وأدخل إليهم الكثير من العادات التي لم تكن شائعة عندهم من قبل، مثل شرب الخمر والإلحاد.

اضافة اعلان

لكنه ما يلبث أن يقرر بأنه هو نفسه لا يصدق ذلك، "فالعرب أصحاب مزاج منذ أن وجدوا... العرب (سوكرجية) من دار أهاليهم"!!

ومن دون مقدمات، يعود ليقرر أن العرب أمة واحدة ذات رسالة خالدة إلى يوم الدين، غير أنه يعود مرة أخرى إلى مزاجه السيئ، ويبدأ بالتشكيك بهذه الجزئية أيضا، حين يبدأ باستعراض غزوات العرب وحروبهم البينية..

وكان هو يكره "الحصة" الأخيرة، ويكره التاريخ وأستاذ التاريخ، بصراحة، كان يكره المدرسة برمتها، وينتظر اليوم الذي يفارقها فيه إلى غير رجعة، من أجل أن ينطلق في حياته بعيدا عن صداعات الكتب والكراريس.

***

انتفض في مكانه كالذبيح على صدمة كبيرة داهمت جسده، وتمر لحظات قبل أن يكتشف أن "الحنونة"، وهو الاسم الذي يطلقه الأستاذ على عصاه، داعبت كتفيه بشراهة، وليجد كذلك أن الأستاذ ينظر إليه من الأعلى وقد ارتسمت على محيّاه علامات الانتصار البهيجة:

- سألتك، مين همو الاستعمار يا "لاطة"؟

 - إسرائيل، إسرائيل يا أستاذ..

***

 في كل صباح، كانت الإذاعة المدرسية تتفجر غيظا وهي تعدد المزايا الوحشية الإسرائيلية، وتلعن مواطني دولة الاحتلال فردا فردا، لذا ظن بأنه سوف يكافأ بالتصفيق الحاد على إجابته.. غير أن ما حدث كان عكس ذلك تماما، إذ سرعان ما كانت "الحنونة" تلتهم جسده بأكمله، والأستاذ يصرخ بطريقة هستيرية:

 - يا (..)، في فرق بين استعمار وبين احتلال يا "لاطة"..

كان أستاذ التاريخ يعبر بشفافية عالية عن حالته النفسية، وكان يمكن للموقف أن يتطور أكثر من ذلك بكثير، إلا أن جرس إعلان انتهاء الدوام، وضع حدّا لمعاناته.. ربما لم يمنعها تماما، فكل ما في الأمر أن الجرس أجل المعاناة إلى يوم آخر، فما كان منه إلا أن قفز خارج غرفة الصف، وهو يحمل ما يشبه الكتب بين يديه.

[email protected]