الصحة النفسية.. كيف ترفع ثقة ذوي الإعاقة بأنفسهم وتجعل حياتهم أكثر استقرارا؟

ربى الرياحي- لم تشعر رانيا عزام (32 عاما) يوما بأنها مختلفة عن غيرها، وخاصة محيطها العائلي وصديقاتها وحتى زملاء العمل. رانيا، ورغم فقدانها البصر منذ الولادة، إلا أن جميع من حولها كثيرا ما ينسون أنها كفيفة، فلديها ثقة كبيرة بنفسها وبإمكاناتها. كل ذلك ساعدها على أن تنجح وتتفوق في كل المراحل التي قطعتها وما تزال حتى اليوم تحصد ثمار تعبها وصبرها وإيمان كل من حولها بها. عاشت رانيا منذ صغرها بين أسرة أحبتها وآمنت بقدراتها ورأت فيها القوة والإصرار، فلم ينكروها أو يخجلوا من إعاقتها بل تعاملوا معها بثقة ووعي، فكان التركيز في الدرجة الأولى على نفسيتها وتمكينها من مواجهة العالم بإرادة قادرة على قهر المستحيل. إحاطتها بالحب والأمان والدعم من قبل والديها وإخوتها في بداية عمرها كان لها الدور الأكبر بعد الله في وعيها النفسي وتقديرها لذاتها، فكان ذلك واضحا في قدرتها على تطوير نفسها وملاحقة أهدافها بكل شغف حتى وإن كانت الصعوبات عائقا بين الحين والآخر، لكنها أيضا كانت تذكرها بأن الطريق حتى وإن طال لا بد من الوصول. رانيا لم تهمش ولم تنعزل عن أعين المجتمع بسبب إعاقتها، بل عرفت كيف تحصن نفسها بتصالحها مع وضعها وبحجم الأمل في داخلها فتمكنت من أن تكون فخرا لكل من يحبها ويؤمن بها. درست واجتهدت وحصلت على وظيفة في إحدى المؤسسات، تسعى من خلالها اليوم إلى تقديم رسائل إيجابية للمجتمع عن الأشخاص ذوي الإعاقة، وذلك بهدف نشر الوعي ودعم كل من هو بحاجة للدعم والتشجيع. الصحة النفسية والاهتمام بها كحاجة أساسية، هو الأمر الذي يجهله الكثيرون ممن يحتكون بالأشخاص ذوي الإعاقة، وهذا له تبعاته السلبية الكبيرة على المجتمع من جهة وعلى حياة الأشخاص من ذوي الإعاقة وأسرهم من جهة أخرى؛ إذ إن إهمال هذه النقطة المهمة والتغاضي عن أهميتها في تغيير واقع الإعاقة نحو الأفضل وإعطائهم المساحة الكافية ليندمجوا ويعيشوا حياة كريمة يزيد حتما من الصعوبات، كما يؤثر سلبا على تقبل هذه الفئة في الحياة الاجتماعية والعملية وحتى السياسية؛ حيث يظل الأشخاص من ذوي الإعاقة أسرى للنمطية والحرمان من أبسط الحقوق، خاصة إذا كانوا يعيشون في محيط أسري يرى أن الإعاقة عبء ثقيل وبالتالي يرفضون تقبل الحقيقة. هذا كله يؤدي حتما إلى إهمال الابن من ذوي الإعاقة، وإبقائه في العتمة، غير أن ذلك سيحبطه وسيدخله في دوامة من الصراعات النفسية التي قد تحوله غالبا إلى شخص إما عدواني أو يخاف من كل شيء، يفتقد الثقة والشجاعة، شخص انطوائي يفضل الاستسلام لقلة الوعي والتقصير على أن يتحدى ويبرز ما لديه من إمكانات. وتبين الاختصاصية النفسية في مجال ذوي الإعاقة الدكتورة سلام عاشور، أن الصحة النفسية للأشخاص ذوي الإعاقة وأسرهم أولوية ومن أهم الاحتياجات التي ترفع من مستوى تقديرهم لذواتهم وتساعدهم على الاندماج اجتماعيا برؤيتهم أشخاصا عاديين لهم طريقتهم الخاصة في ممارسة مهامهم اليومية. ومن هنا، تشير عاشور إلى أن المجتمع بأكمله، بما فيه ذوو الإعاقة وأسرهم، بحاجة أولا لمناعة نفسية ليصبح دمج هذه الفئة أسهل، ويكون ذلك بتغيير اتجاهات الناس وأفكارهم عن الإعاقة عموما وعن صاحب الإعاقة، فبدلا من أن تكون النظرة نظرة شفقة واحتياج دائم للمساعدة، فمن الضروري جدا أن تتغير لتكون نظرة احترام وتقدير لأن الأشخاص من ذوي الإعاقة يمتلكون قدرات هائلة إذا تم استثمارها. وهناك الكثير من النماذج والقصص الملهمة التي تؤكد أن الأشخاص من ذوي الإعاقة يتميزون بإصرارهم على النجاح وإثبات الذات مهما كانت العوائق. ووفق عاشور، فإن الإعلام له دور كبير في رفع مستوى التقبل لدى الناس والعمل على التهيئة المجتمعية من خلال عرض تجارب لأشخاص من ذوي الإعاقة نجحوا وأبدعوا في مجالات مختلفة كالفكر والأدب والرياضة والفن وغيرها من المجالات الأخرى، وأن يكون العرض بطريقة تليق بقيمتهم كمبدعين. وتنوه إلى أهمية التركيز على إمكاناتهم وما لديهم من إنجازات ينبغي تسليط الضوء عليها لتكون دليلا على أنهم قادرون على العطاء وخدمة أنفسهم ومجتمعاتهم، وأيضا تناول قضاياهم والمشكلات التي تواجههم يوميا بشكل حقوقي يبحث في الحلول وتوفير بيئة دامجة وعلى المستويات كافة، إضافة إلى العمل على تمكينهم نفسيا وأن تكون لديهم روح المبادرة وتعزيز ثقتهم بأنفسهم أن يبدأوا هم بتقديم أنفسهم للمجتمع. وتوضح عاشور أن الدمج الفعلي والحقيقي لهذه الفئة يساعد على تقبل الاختلاف والوصول إلى الرفاهية النفسية التي تعكس إيجابيا مستوى تقبل الشخص لنفسه أولا وتقبل المحيطين له ثانيا، والتعرف على مهارات الأشخاص من ذوي الإعاقة وكيفية التعامل معهم. ويجب أن يشمل كل ذلك جميع الناس، فالوعي بأهمية الصحة النفسية يحتاج إلى جهود كبيرة من الأهل ومن الأشخاص ذوي الإعاقة أنفسهم، وأيضا هناك دور مهم على المدرسة والمختصين النفسيين. ووفق عاشور، من الضروري تزويد كل المؤسسات والجهات المعنية بكوادر متخصصة في مجال الصحة النفسية وتنظيم مبادرات باستمرار تزيد من الثقة بالنفس، فكلما كانت الصحة النفسية أعلى كان الأداء الفكري والجسدي أفضل وأكثر اتزانا واستقرارا لأن الحالة النفسية تؤثر على جميع مناحي الحياة. وتؤكد عاشور أن تمكين الأشخاص من ذوي الإعاقة ومنحهم الفرص في أن يكونوا فاعلين في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يتحقق بتعاون جميع الأطراف ابتداء من الأهل والأشخاص ذوي الإعاقة ووصولا إلى الجهات المسؤولة عن هذه الفئة، ليشمل بعد ذلك كل المجتمع، وأيضا التنسيق ومتابعة تنفيذ القوانين فعليا وليس فقط، نظريا. كما تلفت عاشور إلى العمل على التهيئة البيئية للإعاقات كافة وذلك من خلال سياسة دمج واضحة الأهداف وبخطوات سريعة ومثمرة. ويرى الاختصاصي التربوي والأسري الدكتور عايش نوايسة، أن الانتباه للصحة النفسية للأشخاص ذوي الإعاقة وأسرهم أمر ضروري جدا؛ لأن الاهتمام بها كحاجة أساسية يساعدهم على التكيف مع الواقع، وأيضا مع البيئة المحيطة ويجعلهم هم وأسرهم أكثر تقبلا لفكرة الإعاقة والتحديات التي تحيط بها. ومن المهم جدا أن يبدأ الأهل بأنفسهم، وخاصة إذا كان لديهم ابن من ذوي الإعاقة، ويكون ذلك بالتقبل وزيادة الوعي والقراءة أكثر عن كل ما يتعلق بموضوع الإعاقة ومشاهدة فيديوهات محفزة تعطيهم الدافع للعمل من أجل توصيلهم لأهدافهم. كما أن الاستعانة بأصحاب الخبرة والاختصاص بمجال الصحة النفسية تساعد على توجيه الأهل وإرشادهم للطريق الصحيح ليستطيعوا التعامل مع أبنائهم بشكل طبيعي بعيدا عن الخوف أو المبالغة أو الخجل. وبحسب رأي نوايسة، فإن الأسرة تحتاج في هذه الحالة لدعم نفسي ومادي أيضا لتتمكن من توفير كل الاحتياجات الأساسية لابنها، كما أن دورها مهم في تعويد الابن من ذوي الإعاقة على خدمة نفسه بنفسه وإعطائه بعض المسؤوليات كغيره، فالتعامل معه بهذه الطريقة يكسبه الثقة أولا وأيضا يشعر بالمساواة وبأنه قادر على المساعدة بحدود إمكاناته. ويلفت إلى أن هناك أشخاصا من ذوي الإعاقة أبدعوا ووصلوا لمواقع مهمة في مجالات شتى لأنهم وجدوا الدعم النفسي والاحترام والتقدير في أسرهم أولا، ومن ثم استطاعوا الخروج للعالم بإرادتهم وإيمانهم الكبير بأنفسهم فنجحوا في تقديم نماذج مشرفة تثبت أن الإعاقة لا يمكن أن تكون عجزا. ويدعو نوايسة الجميع لأن ينظروا للأشخاص من ذوي الإعاقة بإنصاف والتعامل معهم على أنهم أشخاص عاديون وليس كفئة تحتاج لمعاملة خاصة، وألا يكون الاهتمام بهم بدافع الشفقة بل بدافع الإنجاز، وما لديهم من طاقات يجب استثمارها بطرق إيجابية تعود بالنفع عليهم وعلى مجتمعاتهم. اقرأ أيضاً: الصحة النفسية لذوي الإعاقة.. قوانين “مركونة” ومعاناة تتعمق الصحة النفسية سبب رئيس للإعاقة.. توضيحات مهمة من منظمة الصحة العالميةاضافة اعلان