"جبنة" على الطريق الصحراوي!

قلت لنفسي: هذه المرّة لن أخيب رجاءات الأولاد، وسآخذهم الى العقبة، رغم أنني أعرف ما ينتظرني!

حدث هذا الأسبوع الماضي، سارع الأولاد غير مصدقين، وضعوا أغراض الرحلة في السيارة، وهم يسرفون في مديحي كي لا أتراجع عن الفكرة كما فعلت قبل ذلك عشرات المرات، لكنني كنت مصمّماً أن أنهي هذا الفضول عندهم للتعرف على المدينة التي يرونها في الإعلانات التلفزيونية فلا يصدقون أن أهلها يتحدثون العربية مثلهم!

اضافة اعلان

خرجنا في التاسعة مساء، لتجنب الحرارة، وسلكنا الطريق الجديد، أملا في تجنب عثرات الطريق القديم، ولا أكتمكم أنني كنت أتوقع تغييرات جذرية تدهشني على الطريق، الذي هو نفس الطريق الى مدينة عالمية من عجائب الدنيا السبع اسمها البتراء!

ولم يخب أملي، فقد اندهشتُ جداً، حين اكتشفتُ أن أكثر من نصف الطريق كان بلا إضاءة بالمرّة، معتما تماماً، "مثل الكحل كما يقول الفلاحون"!

وكان عليّ أن أحزر حدود الشارع الذي باتجاهين، وأن أتوقع المنعطفات، وأن أعرف مواعيد تسكع الكلاب الضالّة، وأن أتجنب المطبّات والحفر، وأن أعرف أن السير على هذا الطريق يجري وفق قاعدة واحدة فقط: أن تغمض عينيك وتسير على بركة الله!!

على الطريق: لا محطات بنزين لائقة وحديثة، لا مطاعم أو استراحات تصلح للاستخدام الآدمي، لا مكاتب للإرشاد السياحي (وإن كان هذا يبدو ترفاً فائضا عن الحاجة أمام خلو الطريق بكامله من دورة مياه عمومية واحدة)!

وحين وصلنا العقبة منهكين، ذهبنا نبحث عن الشاطئ الجنوبي الذي قيل لنا دائماً انه مقصد شعبي متوسط الحال، ويناسب العائلات الكبيرة العدد، وفاجأتنا الرائحة الكريهة المنبعثة من الشارع، لكننا واصلنا السير إلى الشاطئ، وقلتُ للأولاد سأرتاح هنا قليلاَ من "سواقة العتمة" التي وترت أعصابي، فاذهبوا والعبوا، واستمتعوا بالعقبة!!، ... لم اعرف كيف غفوت، وحين صحوت، فإذا بالأولاد يتحلقون حولي: كنا نتناوب على حراستك من الكلاب الضالّة!!

سارعنا الى السيارة، وانتظرنا ولداً كان يبحث عن دورة مياه.. عاد يحبس أنفه بين يديه، ويبدو مصعوقاً من أن العقبة هنا لا تشبه صورتها على التلفزيون!

عدنا للشارع الرئيسي نبحث عن شقة مفروشة، والطريق هنا حضارية جداً .. فأرقام الشقق والسماسرة مكتوبة على الجدران كالشعارات أيام المظاهرات، وحين فتحنا باب الشقة فوجئنا بأننا في بيت يشبه العقوبة!!

أغطية الأسرّة لم تغسل أبدا منذ شهور، وكذا أرضيات الغرف، والكنبات الممزوعة الجوانب، والمطبخ والحمّام لا يليقان أبداً بالكائنات الحية .. أيّا كان نوعها، حتى إنني فضّلتُ في الصباح أن أغادر العقبة من دون أن أغسل وجهي، على أن أغسله بماء ذلك البيت!

وقبل أن أغادر المدينة تعرضتُ لموقفٍ طريف؛ حين دخلتُ لأحد المطاعم وطلبتُ عدداً من الوجبات وانتظرتها في السيارة، ولمّا تأخرت الوجبات كثيراً نزلتُ أتساءل، فإذا بالعامل يخبرني ببساطة أن هذه الوجبة غير موجودة وأنه أرسل يطلبها من مطعم آخر "بعيد شويّ"!

أعرفُ أن ثمة فنادق متعددة النجوم، لها شواطئ برائحة مدهشة، وأن فيها بانيوهات معطّرة، ولكنني أسأل: ماذا عن السياحة الشعبية؟ وماذا عن الطريق "الدولي كما يفترض" الموحش المهجور؟! وهل العقبة محظورة على ذوي الدخل المحدود!

في طريق العودة كنتُ أعتزم المرور بالكرك لأشتري جبناً وجميداً، لأخرج من هذه الرحلة بشيء يسرّ البال، لكن الله وفّقنا بخيمة قبل الوصول للكرك بعدة كيلومترات تبيع كل منتجات الحليب، وعرض علينا الولد المناوب أن نذوق فرفضتُ بإباء وثقة، وحملتُ "نصّية الجبنة" وكيس الجميد وعدتُ للسيارة بشعور من يترقب المنسف، لكن زوجتي سألتني: هذه الثلاجة في الخيمة من أين تجيؤها الكهرباء هنا .. وسط الطريق الصحراوي؟

صفنتُ، فكرت، عدتُ وصفنت .. ثم أجبتها بثقة:"شو بعرفني"!

الإجابة العلمية على سؤالها كانت-حين وصلنا البيت- كامنة في طَعم الجبنة!!