معركة البخيت لم تنته!

الحوار الممتع والمطوّل الذي أجراه الزميلان ماجد توبة وفرح عطيات هو بمثابة قراءة بأثر رجعي لـ"مرحلة معروف البخيت" وما شهدته تلك المرحلة من جدالات ومعارك سياسية وإعلامية عاصفة وإشكالات في تعريف المرحلة واتجاهها وحقيقتها.

اضافة اعلان

ربما كان التقييم لتلك المرحلة يختلف لو لم يصاحب البخيت  سوء الحظ الذي تبدّى بالأزمات "المكبوتة" التي تفجّرت في وجه الرئيس، كحالات التسمم وتلوث المياه والعواصف الثلجية، وجميعها استنزفت جزءاً كبيراً من جهد الرجل وحالت دون تفرّغه للمشروع أو المعركة الأهم والأخطر التي كان يفكّر فيها، بخاصة أنّ النفخ الإعلامي، البريء أحياناً قليلة والموجّه أحياناً كثيرة، أدّى إلى تعبئة الرأي العام ضد الرجل وتصويره وكأنّه المسؤول عن تلك الأزمات، مع أنّ المنطق المسؤول والسليم يؤكد أنّها أزمات تراكمية، كان عنوانها الصحيح ليس "عجز الحكومة" وإنّما تمثِّل مؤشرات خطرة على "ترهل القطاع العام" تحت وطأة التضخم والغلاء وتغير موازين القوى داخل الدولة. ولعلّ المفارقة الرئيسة أنّ أحد أركان مشروع البخيت السياسي هو استعادة حيوية القطاع العام وقوته ومكانته.

معركة البخيت الحقيقية برزت بوضوح في خطابه الخطر (في نهاية آب الماضي) الذي أعلن فيه عدم رفع الأسعار انتصاراً لـ"مدرسة الإنسان" في مواجهة "مدرسة الأرقام"، وكانت تلك إشارة غير مسبوقة لحجم الاختلاف والتباين بين مدرستين في مؤسسات صنع القرار، مدرسة تريد الحفاظ على أسس المعادلة السياسية والاجتماعية وعلى هوية الدولة ووجهتها، ومدرسة أخرى تعيد إنتاج تلك المعادلات، لكن من مدخل اقتصادي.

بينما تمتلك "مدرسة الأرقام" وصفات جاهزة للتطبيق، ذات صبغة عالمية، لا تقيم وزناً للوقائع الاجتماعية والخصوصية الداخلية، كما ذكر تقرير لمؤسسة كارنيغي. كان البخيت يمتلك رؤية شخصية بملامح عامة، حاول تطبيقها في اللحظات الأخيرة من مرحلته، تقوم على التحفظ على جوانب في برنامج "الإصلاح الاقتصادي" لما لها من انعكاسات اجتماعية واقتصادية كارثية، لكن البخيت لم يجد خبرة اقتصادية قادرة على تأطير رؤيته تلك، تُشكِّل خطاب المدرسة "الليبرالية الوطنية" في مواجهة "الليبرالية الجديدة"، وهي نقطة ضعف رئيسة في مشروع البخيت.

"انتفاضة البخيت المتأخرة"، كما وصفها الزميل فهد الخيطان، لم تكن كذلك! بل خاض الرجل معركته منذ البداية، لكنه كشف عنها في اللحظات الأخيرة، وجسّد بصورة واضحة هاجس جيل تربّى في القوات المسلّحة واشتغل في المؤسسات السياسية الحيوية، يشعر بالقلق والخوف على هوية الدولة ومشروعها، ودخل في صراع شديد من أجل "معركة الدولة".

ربما تخبِّئ السجالات الإعلامية والسياسية، التي تطفو على السطح، حقيقة ما يجري في العمق. لذلك لم تأخذ معركة البخيت عناوينها الحقيقية. ما أختلف فيه مع البخيت هو تقييم الانتخابات البلدية والنيابية، والموقف من جماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من أنّ هنالك رؤية تقف وراء موقف البخيت وتدخل في سياق المعادلة الاستراتيجية الداخلية، وبخاصة محاولة تيار إخواني - على علاقة بحماس- السيطرة على مقاليد الحركة الإسلامية، ما قد يعيد هواجس "تعدد المرجعيات داخل الدولة" وذلك خطٌّ أحمر.. إلاّ أنّ الحفاظ على مصداقية ومشروعية الانتخابات البلدية والنيابية خطّ أحمر أيضاً. كما أنّ مجال التفاهم والحوار كان مفتوحاً مع التيار المعتدل الذي يمثل الخط الإصلاحي، وقد قدّم ضمانات ومواقف يمكن الاتكاء عليها بدلاً من ضرب هذا التيار، كما حصل فعلاً.

معركة البخيت لم تنته! ويُفترض أن تكون جزءاً من مشروع الإصلاح، تشكل مضمونه وحدوده وأوّلياته، وفي مقدمتها استعادة الدور الدستوري للمؤسسات السياسية الرئيسة (البرلمان والحكومة) في اللعبة السياسية، ثم الانطلاق من ذلك لتحسين شروط هذه اللعبة ومخرجاتها الرئيسة، التي تكفل التوازن بين استحقاق الإصلاح السياسي والحريات العامة وحقوق الإنسان من جهة وحماية هوية الدولة وقيمها واستقرارها من جهة أخرى.

[email protected]