"من حقك أن تعرف".. في مسألة المشتقات المتقاطعة

د. أنيس فوزي قاسم

يخالطني همّ كبير حين أعتقد أحياناً أنني مواطن، وقد أقلعت عن هذه العادة منذ زمن بعيد لقناعتي أنني أنا مواطن دائماً في خدمة الدولة وليس العكس، إلاّ أنه يعاودني الشعور بين الفينة والأخرى وأقرر أن أمارس حقي كمواطن لفترة وجيزة. فقد صدف وأن قام أحدهم قبل سنوات باستيراد أسماك من بلد بعيد وتم الأمر بعدم طرحها في الأسواق لعدم صلاحيتها، وانشغلت خمسة مختبرات في الفحوصات ولم تتفق على النتيجة وهل تصلح للاستهلاك البشري أم لا، ولم تنصرف الحكومة آنئذٍ باعتبارها المسؤولة عن سلامة طعام المواطن، بل ظلت تتلعثم وفشلت في التصريح بجملة مفيدة، ولا أحد انتهى إلى "الزبدة"، وأولهم المواطن الذي لم يعرف إن كان بامكانه شراء السمك أو الاقلاع عنه.اضافة اعلان
ويبدو أن حالنا مع المشتقات النفطية مثل فحص السمك، بل هو أقرب إلى البحث عن حلٍّ للكلمات المتقاطعة، ولا يملك المواطن المختبرات المجهزة ولا يملك أدوات المتابعة الحثيثة والتحليل والعلم لكي يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود في كل هذه التصريحات والبيانات الموزونة والمنمقة والتي كلماتها مثل "حبة البركة"، كل ستين كلمة لا تصنع "لقمة واحدة".
نقرأ – اولاً - ما نشرته شركتا المناصير وتوتال (الغد، 4/12/2018) من ان ما تستوردانه من المشتقات النفطية مطابق للمواصفات الاردنية بينما ما يتم انتاجه محلياً مستثنى من الالتزام بالمواصفات، اي انه لا يتفق والمواصفات الاردنية، مما يعني ان سبب المشكلة التي يشكو منها اصحاب السيارات هي من المنتج الذي لا يتفق والمواصفات الاردنية وهو ليس ما يستوردانه من مشتقات.
ونقرأ – ثانياً – أن شركة مصفاة البترول الأردنية (الغد، 5/12/2018) نشرت بياناً قالت فيه (من جملة اقوال اخرى) انه بعد فحص عينات من البواجي من قبل جهة "محايدة "تبين ان سبب المشكلة هو استخدام مادة البنزين 90 "المستورد" بما يحتويه من حديد. اي ان هذا القول يتعارض مع الاعلان الذي نشرته شركتا المناصير وتوتال.
ويلوم إعلان المصفاة مؤسسة المواصفات والمقاييس انها اعتمدت تقريراً جاهزاً تم اعداده في جمهورية التشيك دون أن تقوم هي بمهمة الفحص، مع العلم أن المؤسسة ذكرت "على استحياء" ارتفاع نسب الحديد في البنزين المستورد. وتبين المصفاة أن قول مؤسسة المواصفات ان نسبة المنغنيز في النفط المستورد متدنية هو قول غير دقيق لأن من يضيف الحديد الى البنزين ليس بحاجة الى اضافة المنغنيز. وطالبت المصفاة في اعلانها باعتماد بيت خبرة عالمي متخصص لتحديد جذور المشكلة.
وصدف ان قالت مؤسسة المواصفات – ثالثاً-  (الموقع الالكتروني تاريخ 4/12/2018)، انه تم فحص عينات من البنزين المستورد والمكرر محلياً لدى مختبرات عالمية (أس جي أس) السويسرية حيث اظهرت ان نسبة المنغنيز في البنزين المكرر محلياً هي 24 ملغ/ لتر بنزين 90 وهو مخالف للمتطلبات الفنية الاردنية، بينما نسبة الحديد في المستورد مرتفعة دون ان تحدد النسبة. وقد تقرر عقد اجتماع لكل ذوي الشأن "لدراسة نتائج فحص البنزين والمراجع المتوفرة لتعديل القاعدة الفنية لاضافة نسبة الحديد... ومراقبة نسبة الحديد والمنغنير في البنزين المستورد والمحلي." ولم تذكر المؤسسة للمواطن ما معنى "البنزين المستورد والمكرر محلياً" فهل هو بنزين المناصير وتوتال ام بنزين المصفاة؟ ولا يعلم المواطن كيف يتم استيراد بنزين ولكنه يكرر محلياً، ثم فجأة نعلم في بيان المؤسسة ان نسبة المنغنيز عالية بينما الشكوى كانت من وجود الحديد في البنزين. ان في هذا  تشويش للمواطن وان لم يكن مقصوداً، بل ان واجب المؤسسة ان تتواصل مع الجمهور الذي لا تتسع معلوماته وخبراته للتمييز بين كل هذه المصطلحات الفنية.
ومن مجموع هذه التصريحات، فان على المواطن ان يصبح خبيراً في النفط ومشتقاته، وله بعض العلم في المركبات الكيميائية لسبر اغوار علم الحديد ومقارنته مع آثار المنغنيز ودراسة خواصهما ورسم الفروقات البيئية بين العنصرين لكي يصل الى فهم هذا السجال بين المناصير وتوتال والمصفاة ومؤسسة المواصفات والمقاييس. بينما ما يهمني في نهاية الأمر – كمواطن- ان احفظ بواجي سيارتي، ليس إلاّ.
فماذا يعني تصريح الحكومة ان "استثناء بنزين المصفاة من المواصفات اتخذ في اعوام سابقة"؟ هل يعني ان بنزين المصفاة يحتوي حديدا ام لا؟. وتقول المصفاة انها لا تضيف الحديد لأنه هو سبب تلف البواجي، وان كان هذا القول صحيحاً فعلى ماذا ورد الاستثناء؟ وتدعو مؤسسة المواصفات الى اجتماع شامل يضم كل ذوي العلاقة "لمراجعة كافة الأطر والمعايير العالمية لإعادة تحديد القاعدة الفنية الاردنية". فماذا يعني هذا الكلام للمواطن؟ وماذا تعني "القاعدة الفنية الاردنية " للمواطن، ولماذا لا تخاطب المؤسسة الناس العاديين بلسان مبين، وهي المسؤولة عن حماية الجمهور. وفوق ذلك، انه من المحزن ان دولة عمرها يناهز القرن من الزمان لا يوجد فيها مختبر معتمد يستطيع تحليل مادة البنزين (وقبل ذلك تحليل صلاحية السمك)  بل نحتاج ان نذهب الى سويسرا للقيام بذلك. أليس هذا من اشكال الفساد والاهمال؟.
ولكن اللعب على المواطن لم يتوقف. فقد علمنا في صباح يوم الجمعة (الغد، 7/12/2018) ان مؤسسة المواصفات والمقاييس منعت "استيراد او انتاج البنزين المضاف اليه مركبات الحديد، مؤكدة ضرورة ان لا يحتوي البنزين المستورد او المكرر محلياً على مركبات المنغنيز بنسبة أعلى من اثنين "2" جزء بالمليون اعتباراً من أمس." ان قراءة هذا التصريح يعني ان البنزين المستورد والمحلي كان يحتوي على حديد وهو سبب الضرر الذي لحق بالمواطن، فهل المسؤولية تقع على كل من يكرر محلياً أو من يستورد؟ وهل هذا يعني ان الطرفين، بالاضافة الى مؤسسة المواصفات، كانوا يقولون للمواطن اشياء مخالفة للحقيقة، او انهم كانوا يقولون اشياء تمثل نصف الحقيقة؟ّ! وهل تصريح المؤسسة يناقض او يتفق مع التحليل الذي اجرته المؤسسة في مختبرات سويسرا او مختبرات جمهورية التشيك؟.
ان التعمية في البيانات واللجوء الى تعقيدات فنية تخفى على المواطن غير ذي الاختصاص، هو نوع من الفساد الذي يجب لجمه ومحاسبة من يحاول اخفاء الحقيقة او نصف الحقيقة. ألم يصرح دولة رئيس الوزراء مخاطباً المواطن أن "من حقك أن تعرف"؟! أنا مواطن يا دولة الرئيس ومن حقي أن أعرف دون أن أذهب الى مختبرات سويسرا.