"برشلونة" و"ريال مدريد"!

في كُلّ مرة يوصيني أولادي أن أشتري لهم قمصاناً رياضية، أذهبُ للمحلات متردداً، وخَجِلاً، ومقهوراً من جهلي الفادح في الرياضة؛ فالبائع لا يُصدّقُ أنني لا أُفرّق بين قمصان "ريال مدريد" و"برشلونة"!اضافة اعلان
وحين اسأله المساعدة بصوتٍ خفيض خشية أن يسمعني الزبائن، فيتحول الأمر الى فضيحة، يتعامل معي بشفقة وكأنه يسأل، كما سيسأل كثيرون من قراء هذا المقال: من أين جاء هذا الكائن؟!
وفي البيت أحاول أن أتابع بطرف عيني انشداد الولدين الكبيرين للمباراة، فأرى أحمد منحازاً بشدة لريال مدريد كما محمود منحاز بشدة لبرشلونة، وأحسُّ أن الولدين منفعلان بجدّ، وأنهما مثل كل الشارع العربي يهجسان فعلاً بالفريقين الإسبانيين!
وأنا بصراحة لم أعد أفهم هذا الهوس، الذي يحتاج لقراءة عميقة، لكنه يروقني لأسباب كثيرةٍ، أهمها أنه عمل على تنفيس الانفعالات الحادّة، والحارّة، التي كنا نعاني منها في شوارعنا من موضوع (وحدات وفيصلي) الى قنوات أخرى لا تضرّ، ولا تثير نزعات الجغرفة المريضة!
وهكذا صارت خلافاتنا الرياضية تحدث في مساحات أخرى متخيلة، ولا ينجم عنها تكسير مقاعد المتفرجين أو سياراتهم.
هذا لا يعني أن موضوع (الوحدات والفيصلي) انتهى، لكنه تراجع بشكلٍ واضح، لصالح الهويتين الرياضيتين الجديدتين، (مدريدي وبرشلوني)، بل إن البعض صار يتعامل مع الموضوع على أنه أكثر رقيّاً أن يكون منشغلاً بفريقٍ أجنبيٍ كبيرٍ وشهير، ليكن .. ليس مهماً الآن ذلك، حتى لو كان هذا المشجع لا يعرف أن لأجداده علاقة أخرى بأسبانيا، ... المهم أن النتيجة هي هدوء على الساحة المحلّية، وهذا بحد ذاته أفضل للمجتمع الذي عانى كثيراً، وطويلاً، من تشنجات المتعصبين.
وكثيراً ما أسأل زملائي حين تحتدُّ مناقشاتهم حول الفريقين، هل يعرف هؤلاء النجوم حجم انشغالكم بهم، وكم يؤثرون في مزاجكم، وفي علاقاتكم، وأحاول دائماً أن أقرأ هذا الانبهار العربي والشغف الذي لا يهدأ بصناعة نجمٍ غربي ما؛ مرةً مايكل جاكسون ومرة هاري بوتر ومرة انجلينا جولي وبراد بيت، وأتذكر النكتة الشهيرة عن الطفل الذي يُصرُّ والده على تعليمه بعض المفردات الانجليزية ويكرر عليه دائماً أن هذه صفة العائلات الراقية، فيسأله الطفل ببراءة: وهل العائلات الراقية في بريطانيا تتحدث العربية؟!
أفهم أحياناً الانحياز العاطفي المفرط في العمر الصبيّ الجميل، والبريء، وأضحكُ له، لا عليه، مثلما حدث معي مرة حين قال لي "محمود" إنه شاهد "رأفت علي" مصادفةً، واستغرب أنه كان مصاباً بالزكام كباقي المواطنين!
وكان يتحدث بانفعال من شاهَد مركبةً فضائية تنزلُ في شارع "المصدار"!!
أفهمُ ذلك، لمن هو في عُمر محمود، لكنني لا أفهمه حين يحدثُ بنفس الدرجة من الانفعال والتوتر عند رجالٍ خمسينيين وستينيين، لا يعرفون عاصمة اسبانيا، لكنهم يحفظون يوميات "ميسي" و "تشافي" وتفاصيلهما العائلية، كما لو أنهما أولاد خالتهم!
..
وها هي "مدريد" تقسمُ الناس ثانيةً، تماماً كما فَعَلت عام 1991بمؤتمرها الشهير، ولكن دون "قضية" هذه المرّة!