خطورة الطبقة الوسطى

تشهد الطبقة الوسطى تغيرات صامتة وأخرى صارخة في أنحاء عديدة من العالم، ومنه العالم العربي. وفي الوقت الذي نركز فيه على أهمية توسيع قاعدة الطبقة الوسطى باعتبارها قاعدة الإصلاح ومنطلقه، وباعتبارها رأس حربة التغيير، كما أيضا قاعدة الإنتاج، فإننا نغفل حقائق أخرى قد تجعل هذه الطبقة مصدر الأزمات، إذا ما أدخلت في مسار من التشويه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي.اضافة اعلان
متى تصبح الطبقة الوسطى خطيرة؟ وكيف تصبح مصدرا للتهديد؟ لدينا أمثلة وممارسات متعددة، من أقاليم مختلفة من العالم، تدل على التشوهات التي جعلت الطبقة الوسطى مصدرا لتصدير الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. نتذكر هنا أن تاريخ العصابات المنظمة، يذكرنا بتشوهات الطبقة الوسطى في أوروبا وأميركا اللاتينية؛ تلك العصابات التي لم تزدهر لولا وجود "دولة العصابة" في الأصل.
في العالم العربي، علينا الالتفات إلى الانتكاسات التي تضرب مشاريع الإصلاح، وأن نحدد متى يكون مصدرها تشوهات الطبقة الوسطى؛ كما علينا الالتفات إلى المفرخة الحقيقية للانغلاق وللجهاديين الذين يذهبون إلى معارك غير عادلة. فهذه الطبقة المشوهة هي البيئة الخصبة لإنتاج التطرف، بعكس ما يعتقد كثيرون بأن البيئات الفقيرة والمحرومة هي التي تنتج المتطرفين.
تصبح الطبقة الوسطى مصدرا للتهديد ليس بفعل ذاتي، بل بسبب السياسات التي توجه لها، وأهمها المزيد من الضغوط الاقتصادية التي تكبلها بالديون والضرائب، والمزيد من تضييق الفرص، والحد من سقف الطموح أمام أبنائها وفئاتها الجديدة؛ ما يزيد  الشعور بين أفرادها بأن ثمة طرق أسهل وأسرع لتحقيق الذات، متاحة بعيدا عن سلطة القانون والأخلاق، في الوقت الذي تتضخم فيه النزعة الاستهلاكية بين أفرادها، وتتراجع القدرة على الادخار وتختلط الأولويات. وعلى سبيل المثال، يتآكل الإنفاق العام على التعليم، بينما تتصاعد النزعة الاستهلاكية من دون أرصدة حقيقية. وهذا التشوه يقود إلى تنامي أخلاق جديدة وسط فئات هذه الطبقة، أهم ملامحها تآكل رأس المال الاجتماعي؛ تراجع الثقة العامة، وارتفاع كلفة الائتمان في المعاملات المالية، وازدياد الجرائم الاقتصادية. هذا فيما تزدهر الأنشطة الاقتصادية غير المنظمة القائمة على "الشطارة والفهلوة" والتهرب الضريبي.
إعادة التشكل التي تشهدها الطبقة الوسطى لدينا في هذا الوقت، تذهب نحو تضخم الفئة الدنيا من هذه الطبقة، بعد أن غادرها الكثير من العاملين في القطاع العام نحو الطبقة الفقيرة العريضة، في حين أن الفئات العليا من الطبقة الوسطى فُرّغت لصالح تضخم الفئة الدنيا من هذه الطبقة، وهي الفئة القادرة على التأثير وإحداث الفرق على الأرض وفي الشارع.
الخطير أن هذه التحولات لا يُلمس أثرها على المستوى الاجتماعي مباشرة، بل هي تتفاقم حتى تنفجر على المدى المتوسط، وتتحول الى كارثة؛ رغم أنه من السهل مراقبتها في الحياة اليومية، وفي تسلل مؤشرات الرداءة إلى حياة الناس. لكن كثيراً ممن يصنعون القرار عادة لا يعلمون شيئا عن الحياة اليومية للناس ولا يعيشونها.
دعونا نقارن بين الثورة الحقيقية التي تشهدها الطبقة الوسطى في آسيا، وبين ما يحدث لدينا. فخلال العقد الأخير، أخذت الطبقة الوسطى في شرق ووسط آسيا بقيادة تغيير الاقتصاد العالمي، نتيجة السياسات غير العدائية التي اتبعتها الصين والهند وماليزيا وكوريا الجنوبية، وحتى أندونيسيا وسيريلانكا، حيال الطبقات الوسطى. كيف انعكس ذلك في تمدد وتوسع هذه الطبقة التي أصبحت أكبر منتج ومستهلك يعرفه التاريخ البشري؟ لاحظوا ان ذلك انعكس في التعليم وازدهار الجامعات في تلك الدول، وفي الحياة اليومية للناس الذين ارتقت نوعية حياتهم وأصبحوا من أكثر أقاليم العالم تصديرا للسياحة. بل في الوقت الذي تتراجع فيه صناعة الصحف في العالم القديم، تزدهر لديهم الصحف وصناعة الكتاب. في المقابل، تقود التشوهات التي تعيشها الطبقة الوسطى في بلادنا هذه الطبقة إلى الفساد والإفساد، وإلى التطرف وتخريب التعليم.
الطبقة الوسطى التي تعد مفتاح التغيير والإصلاح والإنتاج، قد تتحول إلى مفتاح يغلق أبواب الإصلاح والعالم والتاريخ.