زيارة إلى الصين

ترجمة: علاء الدين أبو زينة جورج فريدمان – (جيوبوليتيكال فيوتشرز) 23/5/2019 لا أستطيع أن أشرح الصين؛ فأنا لا أعرفها بما يكفي. ويبدو لي في بعض الأحيان أن الصينيين خبراء في بلادهم، لكنهم خبراء لا أتفق معهم. ومع ذلك، فإن الصين هي عدو لأميركا، والعلاقة العدائية بين هذين البلدين خطيرة حتى لو لم تؤد إلى حرب. ولذلك، لا بد لي من أن أحاول فهم الصين. زرت شنغهاي وبكين، وأظن أنهما تمثلان الصين مثلما تمثل مدينتا نيويورك وواشنطن الولايات المتحدة. وبهذا المعنى، لم أذهب إلى الصين، كل الصين. ومع ذلك، هذه هي المراكز السياسية والاقتصادية للبلاد، ولذلك سأبدأ من هناك. سافرت إلى بكين في الخريف الماضي كضيف لمصرف أراد أن يتحدث إلى المستثمرين الصينيين. حدث ذلك في وقت كانت فيه المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين تزداد سخونة، وكانت الاجتماعات التي حضرتها متوترة. كل ما قلته فيها قوبل بالشكوك. وكان الناس المحليون الذين التقيت بهم يضجون بالتبجح، حول كيفية الانتقام من الولايات المتحدة والثمن الذي سينتزعونه منها. لكن تناول مشروب هادئ مع واحد أو اثنين منهم في وقت لاحق في المساء كشف عن بعد آخر، كما يحدث في كثير من الأحيان في الأوقات المتأخرة من الليل. كان المستثمرون خائفين من الولايات المتحدة، وأرادوا إرسال رسالة إليها تقول بأنه بينما تبالغ الولايات المتحدة في رد فعلها، فإنه ليس هناك شيء لا تمكن إدارته. لقد أراد الصينيون ببساطة معرفة ما الذي يريده الأميركيون. كان هؤلاء رجالاً مهمين، ذوي صلات جيدة مع مراكز القوة السياسية الصينية. وما كانوا ليتعاملوا بالأموال التي يتعاملون بها من دون مباركة سياسية. وقد ذهب هؤلاء الرجال إلى العديد من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة. وكان أحدهم، الذي يدير صندوقاً كبيراً بشكل خاص، ميالاً إلى لهجة المواجهة في العلن، لكنه اعترف لي سراً بأنه لا يفهم الأميركيين -ليس الحكومة، وليس الرئيس دونالد ترامب، وليس ما اعتبره عداء الجمهور الأميركي للصين. وترامب، في رأيه، أسير لقوى اجتماعية هائلة. (بمعنى ما، كان هذا هو الماركسي القديم فيه، والذي يبحث عن الأساس الاجتماعي للأشياء). لكنه لم يستطع أن يفهم كيف أن المجتمع الأميركي انقلب على بلد لم يلحِق به أي ضرر. كان هناك شيء غريب للغاية في فهمه للولايات المتحدة. من ناحية، كان يشعر بأن ترامب سجين للقوى الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، طلب مني أن أوصل إليه رسالة. لماذا يُرسل رسالة إلى رجل عالق ومحاصر؟ وتفاقم ارتباكي من فكرة أنني يمكن أن أقوم بإيصال رسالة إلى أي مسؤول كبير. حاولت أن أوضح للرجل أنني لست على اتصال بالحكومة، وأن المسؤولين لن يعطوني الوقت، على افتراض أن لديهم أي فكرة عمن أكون من الأساس. ولم يكن هذا مفهوماً له أيضاً. كيف يمكن أن أكون في بكين، وأن أتحدث عن أمور حساسة مثل تلك التي تحدثتُ عنها، وأن لا أكون مأذوناً من الحكومة؟ وكلما احتججت أكثر، كلما أكد لي أنه يفهم. كان هذا موقفاً عايشته سابقاً في العديد من البلدان التي لا يستطيع مواطنوها تصور مواطن عادي يعرف الأشياء ولا يكون خاضعاً للمساءلة أمام الحكومة. (الافتراض هو أنني من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وكلما أكدتُ أنني لست كذلك، كلما حصلت على غمزة ونظر إليّ محدِّثي نظرة العارف بخفايا الأمور). لكن هذا الرجل كان في الولايات المتحدة وأجرى أعمالاً هناك. كيف لم يستطع أن يعرف أنني أشاهد فقط من المدرجات، وأعرض أفضل تحليل يمكن أن أتصوّره للوضع، وليس أكثر؟ الحقيقة هي أنه بينما يمكن القول بأن الأميركيين لا يفهمون الصين، فإنه حتى الصينيين الأكثر تطوراً لا يعرفون ببساطة كيف يقرؤون الولايات المتحدة. نعم، تم انتخاب ترامب من قبل القوى الاجتماعية؛ ونعم، هو رئيس. لكن عليه أن يتعامل مع الكونغرس والمحاكم. ويداه طليقتان ومقيدتان بطريقة أميركية للغاية. والولايات المتحدة، بالنسبة لي، مليئة بأشخاص يذهبون إلى الصين ويتصرفون هناك كما لو أنهم يعرفون شيئاً ما. وواشنطن نفسها مدينة مليئة بالأشخاص الذين يدَّعون أنهم يعرفون أشخاصاً مهمين، لكنهم في الغالب لا يفعلون. قبل سنوات، قبل الخوف المتبادل السائد اليوم، كنتُ قد التقيت برجل أعمال صيني أراد بيع بعض البضائع لوزارة الدفاع الأميركية. وأراد مقابلة مسؤول حكومي رفيع المستوى، وزير الدفاع على الأقل. وقيل له إنه بحاجة إلى مقابلة ضابط برتبة ملازم أول، مدير المشروع، الذي يتوجد في كولورادو، وإن هذا هو المفتاح لعملية البيع وليس وزير الدفاع. وروى لي رجل الأعمال هذه القصة بغضب، لأنه من الواضح أنه تم رفضه بلا كياسة. وكان كل ما استطعت فعله هو إخباره بأن من الأفضل له أن يسرع قبل أن يتم نقل الملازم أول إلى وظيفة أخرى، ويُترك منصبه شاغراً لستة أشهر. بينما كنت في بكين، خصصوا لي مرشدة لتأخذني في جولة في أنحاء المدينة. وكان أحد الأماكن التي أخذتني إليها حياً تقليدياً صغيراً في وسط بكين يُسمى "هوتونج". والمكان ليس متحفاً، وإنما قرية صغيرة فيها أشخاص يعيشون هناك ويتسوقون هناك ويربون العائلات هناك. وكانت الأكواخ، إذا كان من الممكن تسميتها كذلك، صغيرة، وأخبرتني مرشدتي أنها كانت قد عاشت في أحدها عندما أتت إلى بكين أول الأمر. كانت لديها غرفة مع إمكانية استخدام موقد مشترك للطبخ في الردهة، وإنما ليس المرافق الأخرى. وعندما أرادت الاستحمام أو استخدام المرحاض، كان عليها أن تمشي مسافة في الشارع إلى حمام مشترك. وأخبرتني أن الكثير من الناس يريدون العيش في هذا الحي، لكن الغرف هناك باهظة الأجور. في وقت سابق من ذلك اليوم، كنتُ قد تناولت الغداء مع صديق أسترالي في مركز للتسوق، والذي سيكون راقياً للغاية بالنسبة للولايات المتحدة -كانت جميع العلامات التجارية الدولية موجودة فيه. وكان المركز مزدحماً بالمتسوقين الشباب في أغلبهم. وقيل لي أن هناك العديد من مراكز التسوق في بكين. وفي هوتونج، أخبرني مرشدتي أن هناك العديد من القرى كهذه في بكين. وأجد من غير المفهوم كيف أن عاصمة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والتي لديها مراكز تجارية من شأنها أن تجعل بيفرلي هيلز تحمر خجلاً أمامها، تختلط مع قرى الفلاحين من حقبة ماضية. ولم تستطع مرشدتي أن تفهم حيرتي. هذه هي النقطة التي يُفترض أن أقول فيها إنه يجب علينا جميعاً أن نعمل نحو فهم أفضل لبعضنا البعض. إذا كان لدينا الوقت، يجب أن نفعل. لكن الحقيقة هي أننا لن نفهم بعضنا البعض بالكامل. وقد قابلت العديد من المغتربين الأميركيين الذين قضوا سنوات في الصين واعترفوا لي بأنه على الرغم من فهمهم للصين بشكل أفضل مما فعلتُ أنا، فقد بقيَت لديهم مساحات كبيرة فارغة في معرفتهم بالبلد. وينطبق الشيء نفسه على الصينيين. كل واحد منا يعقل الأمور من خلال منظور مجتمعاتنا الخاصة، ويبحث عن تناظرات من بلداننا الخاصة. ويشمل ذلك أولئك الذين يعجبون بالدولة الأخرى بقدر ما يشمل الذين يخشونها ولا يثقون بها. ومن الواضح أن لدى البلدين جغرافيا وتاريخ ومخاوف مختلفة، والتي تنشأ من أماكن مختلفة. كما أنه ليس من الضروري بالنسبة لنا أن نفهم بعضنا البعض، وهو أمر جيد بنفس المقدار، بما أننا لا نفعل. لكن ما هو ضروري، مع ذلك، هو أن يفهم كل مواطن من البلدين بلده واحتياجات بلده. لا يمكنني أن أشرح لمدير الصندوق الصيني كيف تعمل الولايات المتحدة، وإنما أستطيع أن أخبره بما تريده من الصين: الوصول إلى الأسواق الصينية بنفس الشروط التي نمنحها لهم، والاعتراف بأن منطقة المحيط الهادئ هي تحت السيطرة الأميركية. من الأهمية بمكان أن نفهم ما نحتاج إليه ونترك للصينيين أن يفهموا ما يحتاجون إليه، وسيقوم النظام برعاية نفسه، في الغالب بسلام وأحياناً بعنف. لكن الفكرة القائلة بأننا إذا فهمنا بعضنا البعض بشكل أفضل فإننا سنتمكن من حل المشكلات، إنما تفوِّت نقطتين. أولاً، إننا لن نفهم بعضنا البعض. وثانياً، إن الضغوط الداخلية الهائلة في كل بلد سوف تحدد ما سيفعله كل منهما -ليس مركز أبحاث، وليس أصدقاء الرؤساء المقربين. لكننا إذا كنا نعرف ما نريد، فسوف يمكننا عندئذٍ أن نفهم ما يجري على الأقل. *استشاري واستراتيجي جيوسياسي معروف دولياً في الشؤون الدولية، ومؤسس ورئيس "جيوبوليتيكال فيوتشرز". *نشر هذا المقال تحت عنوان: Visiting Chinaاضافة اعلان