كبش الفداء!

يعتمد تحليل الصورة الذهنية في علم "تحليل الخطاب" على تحليل الصفات والأدوار، أي الصفات التي تطلق على أحداث أو فاعلين أو ظواهر وما يرتبط بها من أدوار في الحياة العامة وتخرج في النهاية بفعل التراكم على شكل صورة ذهنية، وإذا ما حاولنا تطبيق هذا المنظور العلمي على الأزمات المتلاحقة في فلسطين ولبنان والعراق، نلاحظ كيف تحاول السياسة الدولية اختصار جوهر الصراع الدولي الذي تعكسه الحالة الراهنة في مثلث الأزمات على انه مجرد أزمات حكومات لا أكثر.

اضافة اعلان

الصورة الذهنية الرائجة في السياسة الدولية تختصر تاريخ القضية الفلسطينية اليوم ومعضلات الاحتلال والخروج التاريخي السافر للمحتل الإسرائيلي عن الشرعية الدولية في أزمة الحكومة الفلسطينية الراهنة؛ أي أن ثمة هندسة تدوير وإعادة إنتاج للقضية تلخصها في أزمة الحكومة وعجز المجتمع السياسي الفلسطيني عن التوافق حول خيارات محدودة وليست مصيرية. والصورة الذهنية الرائجة في السياسة الدولية حول الأزمة اللبنانية بجذورها العميقة وحجم التداخلات الإقليمية والدولية تختصر في كونها مجرد أزمة حكومة تتمثل في استحواذ الأكثرية وتهميش الأقلية من جانب أو رفض الأقلية لقواعد اللعبة الديمقراطية من جانب آخر. والأزمة العراقية الطاحنة في نار العنف والحرب الأهلية تصور وكأنها أزمة حكومة عاجزة عن فرض سيادتها وفرض الأمن وكأن لا وجود للاحتلال ولا المقاومة ولا وجود لنفوذ إقليمي تمثله القوة الإيرانية الممتدة بسرعة ومن دون رادع. بمعنى ان السياسة الدولية تطرح مضامين زائفة للصراع في مثلث الأزمات بصورة خادعة تستمد قوتها ومصداقيتها الظاهرة من أفعال السياسة اليومية.

في الأزمات الطاحنة الثلاث، توجد بالفعل أزمة حكومات، لكنها لا تعدو أكثر من عرض طارئ لمرض مستفحل، وفي هذه الأزمات الثلاث يلعب العامل الخارجي الدور الحاسم على شكل نفوذ أو تدخل مباشر أو ضغوط وصولاً للهيمنة، وقبل كل ذلك هناك عامل مشترك يتمثل باحتلال بغيض وغامض المصير جاثم في فلسطين والعراق وبقاياه وأسبابه لا تزال تهيمن على السياسة والحياة في لبنان، وفي الأزمات الثلاث يشكل الدين والطوائف أداة أساسية للفرز وإدارة الصراع، وفي هذه الأزمات هناك فوضى أمنية وصراع على السلاح وأدوات إدارة القوة، وفي هذه الأزمات جميعها هناك غموض واضح في اتجاهات الرأي العام وتصوراته حول قيم الصراع وحقيقة ما يجري، وجميع هذه الأزمات تفتقد مفتاح الحل الحقيقي الواضح في المستقبل القريب.

بالفعل يجسد العراك السياسي في مثلث أزمات المشرق العربي حالة خادعة لنموذج الصراع داخل الثقافة الواحدة، وهذا منحى فكري وسيناريو استراتيجي تطور على خلفية مقولات الصراع بين الحضارات، وكما قيل فان الزلازل لا تضرب إلا الأرض المتشققة أو الرخوة، فهناك أسباب ودوافع جاهزة لا تحتاج للاختراع لإشعال سلسلة طويلة من الأزمات التي لا تنتهي، ولكن نظرة سريعة لأطلس الجغرافيا السياسية والتكوين الاثني والاجتماعي والثقافي لعالم اليوم تكشف ان الكرة الأرضية بأكملها أرض رخوة ومتشققة وفق مقاس أزمات المشرق العربي.

السياسة الدولية في الشرق الأوسط دفعت بالسياسة اليومية إلى الواجهة لتغطي على جوهر الصراعات الحقيقية، وأخذت تستثمر التواريخ الثقافية ومرارة الإحباط العربي من الحقبة الاستعمارية وحتى هزائم فلسطين والاحتلالات الجديدة وتوجيهها نحو الداخل. هناك نظرية قديمة في علم النفس الاجتماعي تسمى نظرية "كبش الفداء" تفسر الصراعات داخل الجماعة الواحدة، كيف ان تراكم الإحباط المستمر والعجز عن مواجهة الآخر الخصم أو العدو، يحدث إزاحة للعدوان؛ أي اختراع "آخر" من داخل الجماعة ذاتها، وحينما يشتعل هذا الصراع يزيد حجم التعصب، ووفق هذه النظرية فسرت بعض المدارس الفكرية الغربية علاقة الألمان باليهود بعد سنوات الكساد الاقتصادي الكبير، وكيف ولد الإحباط الصراع الاجتماعي السياسي الذي انفجر خلال الحرب.

كلما تعاظم الإحباط ازدادت احتمالات العدوان، وازدادت إمكانية توجيه هذا العدوان من الخارج وإزاحته عن مصادر الإحباط الحقيقية، وهذا ما يحدث بالضبط عبر السياسة اليومية في المشرق العربي.

[email protected]