مستقبل براغماتية "الجولاني" في إدلب وعفرين

قائد مجموعة هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني - (أرشيفية)
قائد مجموعة هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني - (أرشيفية)
يلماز سعيد* - (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) 8/11/2022 على الرغم من سنوات من الجهود لتحسين السمعة الدولية لـ"هيئة تحرير الشام"، فإن الاستراتيجية التي يتبعها أبو محمد الجولاني في شمال غرب سورية كانت مدفوعة بالانتهازية وليس بالأيديولوجية. ومع ذلك، يغلب أن تكون القرارات التي تتخذها الجهات الإقليمية الأكبر هي التي ستحدد مستقبل الجولاني. في الآونة الأخيرة، يبدو أن الطرفين؛ الروسي والتركي، يهدفان إلى حدوث انفراجة ستؤثر بدورها على ميزان القوى داخل سورية، خاصة في شمال غرب البلاد. وفي حال توصل النظام السوري والحكومة التركية إلى اتفاق متقدم، فربما يكون أحد شروط هذا الاتفاق هو القضاء على إمارة الجولاني في إدلب، و"قوات سورية الديمقراطية" في شمال شرق البلاد، اللتين تمثلان شوكة في جانب كلا الطرفين. * * * في ظل التحولات والظروف المعقدة التي تعيشها سورية، تتغير باستمرار مواقف معظم القوى المحلية والإقليمية والدولية، وهو ما أدى بدوره إلى تغيير المسار العام للبلاد مع بروز التحالفات والعداوات. ومع تحول السيناريوهات على الأرض، باتت إحدى السمات المتكررة للصراع في سورية هي احتمال أن يكون عدو الأمس صديق الغد -أو العكس. ولعل أبرز مثال على ذلك هو التحول الأخير الذي حدث في ميزان القوى في إدلب وشمالي حلب؛ حيث يعمل أبو محمد الجولاني، إحدى أبرز الشخصيات المثيرة للاهتمام التي يصعب التكهن بتصرفاتها، على بسط سيطرته على معظم المنطقة من خلال قيادة فصيل "هيئة تحرير الشام". اتسمت مسيرة الجولاني -كزعيم لهيئة تحرير الشام- ببراغماتية شديدة أسهمت في نجاح المنظمة واستمرارها على الرغم من وجودها غالبًا في وسط يتسم بالجمود الإيديولوجي. وقد دفعته تلك البرغماتية إلى التخلي عن خلفيته المتطرفة المتزمتة، وشرع في تغيير قناعاته بسرعة فائقة وبصورة متكررة كلما اقتضت مصلحته ذلك. في البداية، قام الجولاني بفك ارتباطه بتنظيم "الدولة الإسلامية"، عندما عمل على النأي بـ"جبهة النصرة" عن التنظيم بعد أن أعاد البغدادي تسميته بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش). وبعد ذلك، عمل الجولانى على تغيير أهدافه العابرة للحدود ليصبح فصيلاً محليًا، حيث أعاد تسمية "جبهة النصرة" وأصبح يطلق عليها اسم "هيئة تحرير الشام". يشير خطاب الجولاني بشأن ضرورة بناء كيان سني في المناطق المحررة مرة أخرى والتحولات التي أحدثتها "هيئة تحرير الشام" في بنيتها الفكرية والتنظيمية، إلى سعي "الهيئة" إلى تحقيق مصالح مرحلية ضيقة، تأتي في إطار خدمة أهداف سياسية تكتيكية. وقد عمل الجولاني منذ قدومه إلى سورية على عدم الوقوع في عزلة عسكرية، وذلك على الرغم من عدم قبوله شعبياً. وقبل توغل "هيئة تحرير الشام" في عفرين -وهي منطقة كانت خاضعة في الأصل لسيطرة "قوات سورية الديمقراطية"، ثم استولى عليها "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا (المكون في الأساس من عناصر سابقة في "الجيش السوري الحر")، قام الجولاني بتوطيد علاقاته مع فصائل من "الجيش الحر" وفصائل إسلامية أخرى. مع تحول "الجيش السوري الحر" إلى ما يسمى بـ"الجيش الوطني السوري" في شمال غرب سورية، عمل الجولاني أيضًا على تعزيز علاقاته مع الفصائل الإسلامية، مثل "فرقة الحمزات" و"لواء الشاه"؛ حيث سمحت هذه الفصائل لـ"هيئة تحرير الشام" بالتوغل إلى شمال حلب. كما شارك الجولاني أيضًا في جهود متعددة استمرت لسنوات لتحسين صورته في الغرب وبناء علاقات غير مباشرة مع دول أجنبية، وكان ذلك واضحًا خلال مقابلته مع الصحفي مارتن سميث، من قناة "بي. بي. إس فرونتلاين". إلى جانب نفوذه الأمني المتزايد، عمد الجولاني إلى السيطرة على مفاصل الاقتصاد؛ حيث استولى على المعابر، وتجارة النفط والمحروقات والقمح والقطن، وبيع الأراضي ومحلات الصرافة. كما ركز على دور الإعلام وأهميته؛ حيث أنشأ وكالة إعلامية رسمية أسماها "وكالة إباء"، وقام ببناء جيش إعلامي رديف يحشد له ولسياساته عبر قنوات "تيلغرام" الأكثر استخداماً في أوساط المعارضة والشمال "المحرر" لتمرير مشاريعه والتمهيد لها والدفاع عنها. وفي خطوة أخرى، التي يغلب ألا تكون الأخيرة، حاول الجولاني الانفتاح على الأديان والطوائف السورية الأخرى؛ حيث قام بإعادة فتح كنيسة بلدة اليعقوبية في منطقة جسر الشغور في محافظة إدلب في آب (أغسطس) الماضي، وأقيم أول قداس فيها منذ العام 2011، الأمر الذي أثار غضب الإسلامين وأصحاب الفكر المتشدد، إلى أن أصدرت "هيئة تحرير الشام" بياناً بذلك كان من بين ما جاء فيه أن "هيئة تحرير الشام تعتبر سكان بلدات غرب إدلب الذين يعتنقون الديانة المسيحية جزءاً من المجتمع، لهم حقوقهم من العيش في بيوتهم وممارسة أعمالهم وأنشطتهم منذ بداية الثورة وينعمون بالأمن". كما أشار البيان إلى أن سكان هذه البلدات عليهم واجبات، أبرزها "عدم الاصطفاف إلى جانب النظام وإعانته والالتزام بالسياسة العامة في المناطق المحررة". الآن، وعلى الرغم من سيطرة "حكومة الإنقاذ"، التابعة للجولاني على محافظة إدلب، فإن سجون الجولاني (الزنبقي والعقاب وحارم) أصبحت تعج بالجهاديين وقيادات وعناصر تنظيم القاعدة، خصوصاً "المهاجرين" غير السوريين بتهم الانتماء إلى "داعش"، أو من وصفهم بالخوارج ورؤوس الفتنة. في وقت سابق من هذا العام، توعد الجولاني بتوسيع نفوذه في المنطقة، وكان متوقعاً أن يستغل أي فرصة ليتمكن من تحقيق طموحه، ويبدو أن اغتيال الناشط محمد عبد اللطيف الملقب باسم "أبو غنوم" على يد عناصر "فرقة الحمزات" الذي قام "الفيلق الثالث" على إثره باعتقال منفذي عملية الاغتيال وبث اعترافاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وما تبعه من هجوم للفيلق على مقرات "الحمزات"، أعطى الجولاني مبرراً للدخول على الخط ومساندة "الفيلق الثالث". خلال الأسابيع القليلة الماضية، تسارعت الأحداث، ووصلت عناصر "هيئة تحرير الشام" إلى حدود مدينة اعزاز؛ أبرز مدن "درع الفرات"، وتم إطلاق حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم "#إدارة-واحدة". وقد يكون الهدف الأساسي للجولاني بعد أن سيطر على منطقة عفرين ومناطق غصن الزيتون هو إدارة الشمال السوري من خلال حكومة "الإنقاذ" من دون وجود عسكري معلن. ويشير الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين "هيئة تحرير الشام" و"الفيلق الثالث"، والذي يتضمن استلام "الهيئة" الإدارة المدنية والاقتصادية والأمنية لمناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، إلى أنه تم تهميش واضح لدور الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف المعارض. حدث ذلك علماً بأن "الفيلق" يعد جزءاً من "الجيش الوطني" التابع لوزارة الدفاع التابعة للائتلاف، في حين كان من المفترض أن يكون التفاوض والاتفاق مع الحكومة المؤقتة وليس مع الفيلق، لأن هذا الاتفاق سيفضي في نهاية المطاف إلى سيطرة "جهاز الأمن العام" التابع لحكومة الإنقاذ التابعة للجولاني على كل مفاصل المنطقة، وبالتالي انتهاء دور الائتلاف. يشكل التوغل الأخير لـ"هيئة تحرير الشام" في عفرين تطوراً جديداً في خطة الجولاني. قبل ذلك، عملت تركيا على وضع حاجز بين "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" الذي تدعمه أنقرة في اعزاز وعفرين. ومع ذلك، يبدو الآن أن تركيا قبلت ضمنيًا بهذه التحركات الجديدة للجولاني، وذلك على الرغم قيامها بالتصدي له في المناطق التي تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام" بشكل علني. مع ذلك، من المرجح أن تكون القرارات التي تتخذها الجهات الإقليمية الأكبر هي التي ستحدد مستقبل الجولاني. في الآونة الأخيرة، يبدو أن الطرفين؛ الروسي والتركي، يهدفان إلى حدوث انفراجه ستؤثر بدورها على ميزان القوى داخل سورية، خاصة في شمال غرب البلاد. وفي حال توصل النظام السوري والحكومة التركية إلى اتفاق متقدم، كما أشار جاويش أوغلو، فربما يكون أحد شروط هذا الاتفاق هو القضاء على إمارة الجولاني في إدلب، و"قوات سورية الديمقراطية" في شمال شرق البلاد، اللتين تمثلان شوكة في جانب كلا الطرفين. في حال حدوث تلك الترتيبات، قد يتجه الجولاني عندئذ إلى التحالف مع "قوات سورية الديمقراطية" في حال رغبة الأخيرة في فتح جبهة مشتركة ضد النظام وعدم القبول بالاتفاق التركي-السوري وتهديده المحتمل لها. ومن جهة أخرى، في ظل رفض الجولانى لأي اتفاق قائم على المصالحة بين النظام وتركيا، فمن الممكن أن يعود الجولاني ويتحالف مع رفاق الأمس الذين تعج بهم سجونه ويعيش بعضهم في مناطق سيطرته، مثل "حراس الدين" وبقايا تنظيم داعش ومجموعات المهاجرين المتشددين، إلى جانب فصائل أخرى من بقايا "الجيش الحر" والعناصر المسلحة التي ترفض التصالح مع النظام. وفي سياق مغاير، وعلى الرغم من سعي الجولاني إلى إحداث تغييرات فكرية وتنظيمية جوهرية في "هيئة تحرير الشام" من خلال النأي بها عن الفكر الجهادي المعولم وتحسين صورتها الخارجية، بات من الواضح أيضًا أن تلك التغييرات مرتبطة بتقلبات "الهيئة" المصلحية المرحلية، التي تتمثل حاليا في تسويق نفسها ككيان معتدل ونزع تهمة تصنيفها بالإرهاب دوليا، وتثبيت موطئ قدمها وترسيخه محليا. ومع ذلك، من المرجح أن يتبدل الوضع في أي لحظة، وستتغير تكتيكات الجولاني معه في غمضة عين؛ حيث يمكنه التراجع عن تلك المراجعات إذا كان ذلك سيعني الحفاظ على سيطرته وتوسيع نفوذه في شمال غرب سورية، من دون مراعاة لاحتياجات الشعب السوري أو مبادئ حركته. *يلماز سعيد: باحث كردي سوري، كتب العديد من المقالات التحليلية ومقالات الرأي المتعلقة بالشأن الكردي والسوري والتنظيمات الجهادية. شغل سعيد منصب نائب "حركة الشباب الكردي" في سورية منذ العام 2015.اضافة اعلان