عن الشجرة غير المقطوعة

كان حظّي وافرا عام 2008، حين كان مقعدي في أحد مطاعم عمان هو المجاور للراحل المبدع الكبير سميح القاسم.


كانت دهشتي أكثر وفرة وهو يحدثني بذاكرة متقدة عن مدينة الزرقاء التي جمعتنا كمسقط رأس! خيط ما جمعني بهذا الشاعر الكبير، القادم من "غموض" عرب 48 كما اعتدنا أن نسميهم كأسهل حالة تشخيص لأعقد التباس في الهوية.
كان من عاداتي وقتها أني إذا تعرضت للحرج لجأت للسخرية والتورية والترميز في ملاحظات أحاول لأن تكون لاذعة كحائط دفاع يحمي "ضعفي" في الحوار، فالتقط الرجل الكبير- رحمه الله- ذلك وعلّق على سخريتي البائسة وقتها بقوله: هذا أنت عامل مثل المتشائل. 

اضافة اعلان


تلك الملاحظة قادتني إلى قراءة المتشائل، والدخول "المتأخر" في عوالم العبقري إميل حبيبي، وهذا مبدع عبقريته عالمية، وكان أول مداخلي في فهم عالم "عرب 48" الغامض والملتبس على كل بساطته، لكنها تعقيداتنا نحن في عالمنا العربي لا أكثر.


"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" كانت وما تزال لدي أسطورة في عالم الكتابة الإبداعية، لكن إميل حبيبي لديه مهمة وضع كتالوج توضيحي مفصل لعالم "عرب 48" والتجلي كان في "سداسية الأيام الستة"، ومن بين الحكايات الست التي دفقها الراحل دفقا، كانت حكاية الطفل مسعود على كل بساطتها وانسيابيتها مدهشة لي.


والطفل مسعود هذا كان والده من العرب الباقين وأعمامه من العرب المشردين، جملة بسيطة ومفتاحية مدهشة هي بوابة العمق في كل المفارقات، فالطفل مسعود ومعه أقرانه في حارتهم نشأوا على أنهم مقطوعون من شجرة بلا أعمام ولا أخوال، وبعد هزيمة 1967 يكتشف أن له أعماما وأولاد عمومة في الضفة الغربية، هذا الاكتشاف الذي يبني عليه حبيبي كل التداعيات الخاصة بمسعود، تنتهي بمعضلة الطفل الأزلية: فهو مؤمن بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها، لكن هذا الانسحاب بالضرورة سيعيده وحيدا معزولا ومقطوعا من شجرة بلا أعمام ولا أولاد عمومة.


مساء الثلاثاء الماضي كنت ضمن حلقة نخبة محترمة مدعوًا لحضور جلسة حوار مع المحامي والسياسي العربي عضو الكنيست الإسرائيلي أيمن عودة.


في تأملات محض ذاتية وأنا أستمع لضيف مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية، تذكرت الطفل مسعود، لكن هذه المرة وبشكل معكوس تأملت في ما لم يكتبه إميل حبيبي عن ابن عم الطفل مسعود القادم من الضفة الغربية "الأردنية وقتها" خلف الخط الأخضر، هو أيضا اكتشف أن له أعماما وأولاد عمومة في ذلك "الداخل"، خيط ما يربطه مع ذلك الداخل، خيط أعادني إلى حوار "ساذج من طرفي وعميق من طرفه" مع سميح القاسم قبل سنوات طويلة.


تحدث أيمن عودة بدفق أيضا، كان يتدفق بلا تعثر في اللغة والمعنى، متماسكا في فكرته وبيانه، ويكشف في حديثه عن مثقف نوعي ثقافته هي ذخيرته كسياسي متمكن.


لم يغرق "أو يغرقنا" في هندسة التحليل السياسي للسطح، بل سحبنا إلى ما استطاع إليه سبيلا في فهم عالم ذلك "الداخل" وعربه الإسرائيليين، نضالهم المستمر للحفاظ على هويتهم الثقافية ضمن مصفوفة التباسات تاريخية متراكمة، ومن ذلك العمق بنى رؤيته السياسية المتمثلة في الاشتباك مع الحالة السياسية الإسرائيلية، وهو اشتباك يصنع تغييرا أكثر تأثيرا من كل تاريخ الاشتباكات التي مارسناها نحن "عرب الخارج"! 


تحدث أيمن عودة عن كثير من المفاصل التي تحتاج تفكيكا وقراءة، لكن ما أوردته هنا تأملات فرضت نفسها ذكرتني بالأعمام وأولاد العمومة متسائلا عن شجرة لا مقطوعين فيها ولا هي مقطوعة.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا