فنلندا نموذجا

خالد دلال أحسنت فنلندا، وهي من دول الشمال الأوروبي، بأن منعت منح أي تصاريح لأي كان لحرق الكتب السماوية المقدسة على أراضيها، بما في ذلك القرآن الكريم، ذلك أن القانون الفنلندي، وبحسب وسائل إعلام دولية، “ينص على أن انتهاك السلام الديني جريمة يعاقب عليها مرتكبوها، حيث يعد الأمر تحريضا على كراهية مجموعة من الناس، وانتهاك للمعتقدات الدينية الخاصة بهم”. وبذلك تكون السلطات الفنلندية قد اتخذت موقفا إيجابيا متقدما ومغايرا لجيرانها من الدول الإسكندنافية، السويد وهولندا والدنمارك وغيرها من الدول الأوروبية، التي شهدت مؤخرا، وبحجة حرية الرأي والتعبير، وهي زائفة، قيام قلة، أقل ما يقال فيها أنها مختلة نفسيا، بحرق نسخ من المصحف الكريم تعبيرا عن أحقاد وضغائن مدفونة تجاه الدين الإسلامي الحنيف. ما قامت به السلطات في هلسنكي خطوة تحترم على طريق حماية معتقدات ومشاعر المليارات من معتنقي الأديان على وجه المعمورة، بما في ذلك الإسلام، الذي يصل أتباعه إلى ما يزيد على ملياري نسمة في شرق الأرض وغربها. لكن الغريب في الأمر، ورغم أهميته، أنه لم يحظ باهتمام القنوات الرسمية والدبلوماسية في عالمنا العربي والإسلامي، وهذا بحد ذاته مثير للاستغراب والاستهجان، ذلك أن أقل ما يجب أن تقوم به جامعتنا العربية، وحتى منظمة التعاون الإسلامي، هو الترحيب بالخطوة والطلب، عبر الأمم المتحدة، البناء على النموذج الفنلندي في احترام الأديان حتى وإن كان تحت مسببات حماية السلم الديني في مجتمعها. فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة. كما أن على سفارات الدول العربية والإسلامية في هلسنكي توجيه رسائل شكر إلى الحكومة والشرطة الفنلندية، وذلك لتشجيع دول أخرى للقيام بالخطوة نفسها في إطار نشر قيم التعايش والمحبة والتآخي بين البشر. لا يجب أن نتحرك فقط عندما يزعجنا الأمر وبعد انتهاك حرمة الأديان، بل يجب أن ننتهج الاستباقية ونقابل الاحترام الفنلندي للأديان باحترام عربي إسلامي لموقف هلسنكي، وهو موقف عقلاني نابع من الحرص على الصالح العام، وهذا من أسس بناء الدول التي تؤمن بالعدالة الاجتماعية. وفي تطور آخر تزامنا مع الموقف الفنلندي، “قامت المفوضية الأوروبية بتعيين مُنسقة جديدة لمناهضة الكراهية ضد المسلمين”، وهذا أيضا من الخطوات التي علينا عربا ومسلمين الترحيب بها، رغم أن البعض قد يجادل أنها متأخرة بعض الشيء، كونها تصب في صالح تعزيز جسور التفاهم والتعايش بين البشر، وحماية حقوق المسلمين في القارة الأوروبية، وهم بمئات الملايين. ولمن في قلبه مرض تجاه القرآن الكريم، فما عليه إلا تدبر آيات الإعجاز العلمي ليرى عظمته، ومنها قوله تعالى: “وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”، وهو ما بينه العلم الحديث من أن الجبال هي كالخيمة التي تمسك الأرض وتمنع قشرتها من التحرك والتشقق والانزلاق، وإلا كانت الزلازل والبراكين تضرب البشرية من كل حَدَبٍ وصَوْب، وهو الأمر الذي دفع أحد مستشاري الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، والمتخصص في علوم الجيولوجيا والبحار والحاصل على الدكتوراه في الجيوفيزياء من جامعة كولومبيا، فرانك بريس، إلى الاندهاش والقول في أحد المؤتمرات: “لا يمكن للنبي محمد (عليه الصلاة والسلام) أن يلم بهذه المعلومات بمفرده، ولا بد أن الذي لقنه إياها هو خالق الكون العليم بأسراره وقوانينه وتصاميمه”. ويبقى القول، ولمن يتبجح في أوروبا، وهم كثر للأسف، بأن حرق القرآن الكريم هو من حقوق التعبير والرأي، فعليه أن يتذكر قول عالم الاجتماع والمؤرخ الفرنسي وأحد أشهر فلاسفة الغرب، غوستاف لوبون، صاحب كتاب (سيكولوجية الجماهير) ذائع الصيت: “إن العرب هم الذين علموا العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين”. وفي هذا مجمل القول بلغة الفلسفة التي يحبها الكثيرون في أوروبا. فهل من متدبر لذلك في القارة العجوز؟ المقال السابق للكاتب:  نحو تجريم أممي للإساءة للأدياناضافة اعلان